“الجهاد الأكبر” في شراك “المنديل الأحمر”

من قسم افتراضي, المقالات. منذُسنة واحدة.2019-09-04T12:06:47+03:0012:00 صباحًا الإثنين 17 أبريل 2017 م / _17 _أبريل _2017 ه‍|

من منّا من لا يعرف لعبة الثيران الإسبانية التي يقدّمها “الغالب” على أنها جزء من التقاليد الاجتماعية، والرياضات الشعبية، والمواريث الحضارية! وهي تقوم على تلويح المصارع بقطعة قماش أحمر أمام أحد الثيران الهائجة في حلبة الصراع، فيزداد هيجانه بذلك وتقفز اللعبة من حلبة الصراع إلى الشوارع والأزقة والطرقات، وبدلا من أن يهجم الثور الهائج على المصارع يستمر في الهجوم على قطعة القماش الحمراء التي يلوح بها المصارع حتى تخور قواه، وتتلاشى طاقته.

ويبدو أنّ “الغالب” تمكن من الاستفادة من هذه اللعبة، وقام بنقلها من ميادين الهزل إلى ميادين الجدّ، وأدّاها بطريقة محكمة، وشكل متقن، فـ “الغالب” أخذ مكان المصارع وهاهو يلوح بقطعة القماش الحمراء، وهاهم دعاة التكفير يتخبطون في فورة من الهيجان أفقدتهم البوصلة وجعلتهم يستنزفون طاقتهم بدل استثمارها فيما يجدي وعندها تضيع سدى، ولا ينالون من “الغالب” قطميرا، وهذا هو “فقه الاستفزاز” الذي يتقنه “الغالب” أيّـما إتقان ليضمن بقاء “المغلوب” يصارع أمواج الأزمات الوهمية غافلا كلّ الغفلة عن أزماته الحقيقية.

وربّ قائل يقول: ما الذي يجنيه “الغالب” من وراء هذا الأمر؟ والحقيقة أنه يكفي أن يدخل دعاة التكفير في معركة وهمية لا عدو فيها، فتستنزف كلّ جهودهم وتهدر كلّ إمكانياتهم فيما يضر ولا ينفع، فيفقدون الرؤية، ويضيّعون الهدف، ويدمّرون البلاد والعباد، ويهلكون الحرث والنسل، ويكبّر الجميع على الأمن والتنمية أربعا، ويكون دعاة التكفير حقا من الذين يخربون بيوتهم بأيديهم، والمحصّلة القاتمة أن يسدل الستار على دعاة التكفير في بيداء “التيه الحضاري”، وتقبع الأمة الإسلامية في أتون الهرج والمرج، ويهال عليها التراب في أقبية الذل والهوان.

وكأنّ “الغالب” استفاد من تجاربه السابقة فرأى أن الانخراط المباشر في مواجهة “المغلوب” باهض التكلفة فكان أن استدرج دعاة التكفير للقيام بهذا الدور نيابة عنه أو بالوكالة  ـ كما يقولون ـ وهكذا يقوم بتشويه صورة الإسلام بأيدي أبناء الإسلام مما يضمن صدود الناس عن الإسلام، ويضمن انزلاقهم في الحرب على دين “الفطرة” لأن هذا الدين بزعمهم عدو “الفطرة”، ويشغل المسلمين عن كلّ مشاريع الشهود الحضاري بأيدي المسلمين عن طريق إشغالهم بأنفسهم، وإذا أضحى بأس المسلمين بينهم فإن العودة إلى حلبة التاريخ لا يؤذن ليلها بصبح قريب، وساعة الخروج من النفق لا تزال بعيدة، وطريق الآمال لا يزال مفروشا بالآلام.

والحقّ أنّه لا مخرج من هذا المأزق القاتم إلا بإعادة الاعتبار للقرآن الكريم والسيرة النبوية؛ فمما يجب أن يقرر أنّ القرآن الكريم تكفّل بعرض الجانب النظري للإسلام، وأنّ السيرة النبوية تكفّلت بعرض الجانب العملي للإسلام، ولله درّ أم المؤمنين عائشة فقد أومأت إلى هذه الحقيقة الكبرى عندما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: “كان خلقه القرآن”، وما دبّت الأدواء، وانتشرت الأهواء، وعمّت الفتن الهوجاء إلا بهجر هذين المعينين الصافيين، فالقرآن الكريم مبلغ هم المشتغلين به إقامة حروفه، والسيرة النبوية مبلغ هم المشتغلين بها سرد مغازيها، وكلّ بنيان أسس على غير هذين المعينين الصافيين فقد أسس على شفا جرف هار، وتلك هي مشكلة دعاة التكفير.

فهل الذين يريدون استعادة الخلافة على منهاج النبوة عرفوا منهاج النبوة في استعادة الخلافة؟ إنّ منهج القرآن الكريم في استعادة الخلافة يقوم على قاعدة أساسية فحواها: أقم الخلافة في نفسك تقم على أرضك، مصداقا لقول  الله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، ذلك”أنّ العاملين لله ـ كما قال محمد الغزالي ـ يبدؤون الطريق من إصلاح أنفسهم وما حولهم، فإذا أصبح الإصلاح ملكة فيهم وسجية لا تنفصل مكّن الله لهم فأصلحوا الأرض لأنهم لا يستطيعون إلا هذا الإصلاح الذي عاشوا به وعاشوا له، أما غيرهم فدورانه حول نفسه ودنياه وإن زعم غير ذلك”، وصدق الله العظيم إذ يقول: (الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)

والسيرة النبوية تحدثنا أنّ الخلافة معان لا مبان، ومضامين لا عناوين، يجب غرسها في التربة الإسلامية، وذلك هو “الجهاد الأكبر” الذي لفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنظار الصحابة إليه عند قفوله من إحدى غزواته، وقبل أن تعود أسيافهم إلى أغمادها، لأنه خشي أن يقع الصحابة في “خلل مفاهيمي” يأتي على بنيان المجتمع من القواعد، فالمجتمع أحوج ما يكون إلى “علم مراتب الجهاد”، والنخب الفكرية والهيئات الدينية مدعوة إلى العناية كل العناية بهذا العلم الذي أدى إغفاله والجهل به إلى ضياع الكثير من محاولات النهوض، وتيهان العديد من تجارب التغيير، والأمة الإسلامية لا تقوم لها قائمة حتى تعلم علم اليقين بأنّ كلّ أمراضها التي تنخر كيانها وأنّ جميع مصائبها التي تدك بنيانها هي جرّاء تركها فريضة “الجهاد الأكبر”، وكلّ جهد يسعى إلى إقامة الخلافة دون المرور عبر بوابة “الجهاد الأكبر” جهد محكوم عليه بالفشل، وهو إلى التيه والضياع أقرب، وفي المحصلة هو استنزاف لكلّ الموارد والطاقات والمقدرات.

فالأمة الإسلامية ضاعت يوم ضيّعت فريضة “الجهاد الأكبر”، لأن “أعلى مراتب الجهاد ـ كما قال محمد البشير الإبراهيمي ـ  وأصله الذي تتفرع منه فروعه هو الجهاد في النفس حتى تستقيم على صراط الحق والفضيلة،  وتستعد لما بعد ذلك من أنواع الجهاد الخارج عن النفس. والنفس البشرية كسائر الكائنات الحية يجب أن تتعاهد بالتربية الصالحة، وتراض على الفضائل والكمالات وإن شقت، حتى ترجح قابليتها للخير على قابلية الشر، وكلّ هذا يفتقر إلى جهودـ، فهو جهاد فيه كلّ خصائص الجهاد بمعناه الخاص الضيّق، ويزيد عليه بأنه أصله وأساسه، وقد وردت الآثار بتسميته (الجهاد الأكبر) … إنّ عبيد الشهوات لا يتحررون أبدا، فلا تصدقوا أنّ من تغلبه شهواته يستطيع أن يغلب عدوا في موقف. ابدؤوا بتحرير أنفسكم من نفوسكم وشهواتها ورذائلها، فإذا انتصرتم في هذا الميدان فأنتم منتصرون في كل ميدان”.

إنّ دعاة التكفير ضلوا طريق الخلافة، لأنهم ضلوا طريق “الجهاد الأكبر”، فمجرد إعلان الخلافة بطريقة أو بأخرى شيء، وبناء الفرد، اللبنة الأولى في جدار المجتمع الإسلامي شيء آخر، والخلافة إذا لم تكن تتويجا لمسار “الجهاد الأكبر” كانت شبحا لا روح فيها، وكان مبلغها من الإنجازات تكفير الناس والولوغ في دمائهم، لا إصلاح الأفراد وتقويم اعوجاج المجتمعات، ولكن قلب شجرة الأولويات بتقديم التمكين على التكوين بلية ما بعدها بلية، وهاهو الحصاد المر يتجرع العالم مرارته، فلا التمكين وقع .. وأنّى يقع التمكين والأساس هار واللبنات واهية، ولا التكوين حصل .. وأنّى يحصل التكوين وشراك “المنديل الأحمر” يصرف الناس إلى “مشجب وهمي” يعلّقون عليه هزائمهم، ويعلّلون به تخلفهم، فمتى يمزّق دعاة التكفير “المنديل الأحمر” وعندها، وعندها فقط تزول “الغشاوة” عن أبصارهم وتعود “البصيرة” إلى عقولهم.

الأستاذ أحمد رشيق بكيني رئيس المركز الثقافي الإسلامي سطيف ـ الجزائر