تستمد داعش ومثيلاتها في عصرنا مددها الفكري والفقهي من كتب التراث الإسلامي القديمة، وتنتزع الآراء والأفكار من سياقاتها دون أي مراعاة لاختلاف الأزمنة والأمكنة، ولعل من أهم المواضيع التي يتلذذ دعاة هذا الفكر بالحديث عنها هي مواضيع الجهاد الذي يبررون به جنونهم ودمويتهم، ويركزون فيما يركزون عليه في باب الجهاد على موضوع جهاد الطلب الذي يبررون به عدوانهم على غير المسلمين، وقد رأينا ما فعل داعش باليزيديين والمسيحيين في سنجار والموصل وغيره من المدن التي وقعت تحت سيطرته، في تجاهل تام لكون أبواب الجهاد تقع تحت مسمى السياسة الشرعية التي يتسع باب الاجتهاد والتعديلات فيها اتساعاً كبيرا بخلاف باب العبادات وغيرها، فما كان يصلح للمسلمين زمن الأمويين والعباسيين في أبواب السياسة، ماعاد يصلح الآن نظرا لانتهاء زمن الإمبراطوريات وظهور مفاهيم الدول القطرية وعدم جدوى الحروب في فرض العقائد والأفكار في زمن تطور فيها الفكر الإنساني وزادت قيمه القانونية والحقوقية ولم يعد من السهل أن تفرض على ابنك رأياً وهو في بيتك وتحت كفالتك، فما بالك أن تفرض ديناً على أمة.
ولن نناقش هنا آراء الفقهاء في جهاد الدفع والطلب والفرق بينهما ومشروعيتهما واستماتة بعض العلماء في تبرير جهاد الطلب واستماتة آخرين في نفيه فهو مبحث للأسف لازال الدعاة وبعض العلماء المحدثون ينسلخون فيه من واقع القرن الواحد والعشرين حين يتحدثون فيه، ويغيبون بعقولهم في أدبيات القرن الرابع و الخامس الهجريين، التي دونت فيها هذه التفاصيل متناسين أن العلماء الذين ناقشوا هذه المواضيع في القرن الرابع والخامس الهجري كانوا يعانون أنفسهم انفكاكاً عن الواقع الذي يعيشونه، حيث أوقفت الدولة العباسية سياسة الفتوحات الإسلامية، ولم تسجل أي حالة جهاد طلب لها مطلقاً، وكل ماسجله تاريخها كان دفعاً لعدوان بيزنطا عن حدود العباسيين الشمالية. بل سنعرض في هذه السطور للروح التي أسسها القرآن الكريم في هذا الموضوع. فقد كان القرآن الكريم واضحاً تمام الوضوح في ربط الجهاد بالعدوان في سورة التوبة التي سميت بسورة القتال لتفصيلها فيه وفيما يتعلق به، حيث يظهر فيها بجلاء أن الجهاد في الإسلام هو جهاد الدفع والدفاع، وليس جهاد الهجوم والطلب، يقول الله تعالى (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين)، فالأمر بالقتال هنا علته أن المشركين يقاتلون المسلمين كافة، وهو ما يوجب على المسلمين الرد على قتالهم بإعلان الجهاد ضدهم. ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في سورة البقرة (وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، فالأمر بالقتال هنا مقصور على من يقاتل، ويعتدي، وأما من لم يعتدِ فقد نهانا الله تعالى عنه بقوله: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة مرة أخرى في سورة البقرة في قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)، والآية جاءت في معرض الحديث عن وجوب دفع الاعتداء، وفي هذه الآية لفتة غريبة قالما انتبه لها المتحدثون في الموضوع وهي أن الله تعالى في هذه الآية جعل مقاتلة الظالمين المعتدين من العدوان (فلا عدوان إلا على الظالمين )، والكل يسلّم أن مقاتل الظالم مدافع عن نفسه، لكن الله سمّى هذه المدافعة عدواناً، ووصفها به وإن كان قد سمح بها بل وأوجبها، وما دام رد الظلم عدوانا، ومدافعة الظالمين كذلك، فماذا ستكون إذًا الإغارة على الآمنين الوادعين في محطات القطار والمقاهي في الدول غير المسلمة، ممن لا يعرف الكثير منهم عن الإسلام شيئا بل ولا يهمه أن يعرف، فضلا عن أن يقف في طريق الدعوة إليه. وبماذا يمكن أن نصف استئصال داعش اليزيديين والمسيحين من المدن المسلمة التي عاشوا فيها آلاف السنين وعاشوا بين المسلمين وحظوا بحمايتهم في حال الحرب والسلم.
وحرصاً من القرآن الكريم على اقتناص أي بادرة للسلم وإيقاف الدماء أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجنح للسلم، ويعتصم بها، متى رأى من أعدائه ميلا إليها، يقول الله عز وجل في سورة الأنفال بعد الأمر بالاستعداد، وأخذ الأهبة للقتال، (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) فالله يأمر نبيه بالجنوح للسلم مع أعدائه، المحاربين له و لدعوته. وإن كان جنوحهم للسلم بنية الغدر فالقرآن الكريم يصر على عدم بدأهم بالحرب إذ يشير على النبي قائلاً: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين).
وتعكس سيرة نبي الرحمة هذه الروح القرآنية المسالمة ففي مجمل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم 29 لم يدر قتال بينه وبين أعدائه إلا في تسع غزوات وهذا دليل عملي عن استجابة النبي للتوجيه القرآني بتجنب القتال بأي شكل ممكن، كما أن 7 غزوات كانت غزوات استباقية بادر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج بجيشه للقتال بعد تواتر الأخبار أن العدو يتجهز لغزو المدينة، والمتتبع لكافة أسباب غزوات النبي صلى الله عليه وسلم يقف على حقيقة أنها لم تكن حرب هجوم بل حروب على سبيل المبادرة بالدفاع بعد الإيقان من نكث العهد والإصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش، والقبائل العربية وحروبه مع اليهود أو الروم. وحتى حروب الخلفاء الراشدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تخرج عن هذا الإطار الدفاعي، حيث لم تغمض أعين الفرس والروم عن محاولة قتل التجربة السياسية الناجحة في المدينة من خلال تحريض قبائل الشمال العربية عليه وتجهيز الجيوش لوأدها في معقلها، لذا كانت استجابة الخلفاء الراشدين بإعلان الحرب على الفرس والروم درءاً لخطرهما عن الدولة الإسلامية الناشئة. فهل لازال هناك مبرر في هذا العصر لطرق موضوع جهاد الطلب وإثارة نقاشات الماضي التي لم تكن مبررة في زمنها فما بالك بزمننا. وهل من مبرر لداعش ودعاته بترك روح القرآن الكريم وسيرة النبي الكريم في الجنوح للسلم وتجنب الحروب والدم غير الجهل بالإسلام ورسالة الإسلام ورحمة الإسلام.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.