لعل من أهم المفاهيم التباساً على دعاة العنف والتطرف في تاريخنا الإسلامي وواقعنا الحاضر هو مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كثرت الآيات القرآنية في الإشارة إليه والحض عليه، وتواترت السنة الشريفة في ترسيخها كقيمة من قيم المجتمع المسلم، قال تعالى: ” ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، و ثبت عن رسول الله من رواية سعيد الخدري قوله: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” (رواه مسلم)، ولا يحتاج الباحث لكثير جهد ليثبت أن الأمر بالمعروف والنهي ركيزة أساسية من ركائز الدين في الإسلام، وشرط دوام للأفضلية التي وصف الله بها هذه الأمة، حيث لا يعقل دوام حال القوة في أي دولة أو مجتمع بشري فقد حاسية النقد الذاتي والتوجيه السلوكي الجماعي والفردي بما يحفظ أمن وسلامة أفراده، ويحقق مغزى قيام المجموع البشري بشكل عام، ويحقق الرسالة النبيلة للرسالة السماوية وهي خلافة الإنسان على الأرض لتحقيق العدالة. من هذا المنطلق تنبع أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يمكن التوافق على تعريف كلي له مستخرج من كافة الآيات والأحاديث الواردة فيه على الشكل التالي : “الأمر بكل أمر يحقق مراد الله في شؤون الحياة كلها، والنهي عن كل أمر يهدم ويعطل أمر الله في شؤون الحياة كلها”. لكن الإشكال الذي يطرح هنا هو آليات تنزيل هذا التكليف على أرض الواقع، وخصوصاً في مجتمعاتنا المعاصرة التي تشكلت فيها مفاهيم الدولة الحديثة والقوية التي تحتكر العنف والإشراف والتسيير، وتحولت فيه الكثير من المسؤوليات لمهام رسمية لمؤسسات قائمة وتشرف عليها هذه الدولة. كما أن المعضلة الأنكى والمطروحة في هذا المجال هي الفهوم القاصرة للكثير من المتحدثين باسم الدين وللكثير من الجماعات الإسلامية لهذا المفهوم القرآني السامي، الذي يشمل كما قلنا كل شؤون الحياة، لكنه اقتصر في أدبيات هذه الفئة من المجتمع المسلم في الرقابة على بعض الممارسات العملية المتعلقة بالمنشط السلوكي وإغفال تام للقيم الكبرى لهذا الفريضة الدينية، ولنضرب لهذا مجموعة من الأمثلة.
من مسالك تحقيق مراد الله في الكون ( المعروف) إقامة العدل، لذا كل نشاط يقوم به أي فرد في المجتمع في سبيل تحقيق العدل هو أمر بالمعروف، وكل نشط يبذله في وقف نقيضه (الظلم) هو نهي عن المنكر، فمن يطالب في مجلس الشورى ومجالس البرلمان لإصلاح المنظومة الاقتصادية لتحقيق عدالة في توزيع الثروة، فهو آمر بالمعروف، وناه عن منكر استفحل (الفقر) بين المسلمين، ومن يكتب في الجرائد ويفضح أخطاء وزارات الصحة والنقل وغيرها من الورزات من أجل خدمات أفضل للمواطنين فهو يمارس الأمر بالمعروف (الاتقان) وينهى عن المنكر (الهدر)، كما أن الساعي في مؤسسات المجتمع المدني في تنظيف المدن والشوارع آمر بالمعروف (النظافة) وناه عن المنكر (الوسخ)، والمتبرع والمتطوع في برامج محو الأمية آمر بالمعروف (العلم) وناه عن المنكر (الجهل)، كما أن الشرطي الساعي لضبط حركة السير والمرور آمر بالمعروف (النظام) وناه عن المنكر (الفوضى)، والداعي لمحاربة العنف والفرقة بين المسلمين على منبره أو في قناته آمر بالمعروف (الوحدة) وناه عن المنكر (الفرقة) والموجه النفسي والباعث للإيجابية من خلال برامجه ومحاضراته آمر بالمعروف ( الإيجابية) وناه عن المنكر (القنوط والإحباط)، والآمر لابنه أو صاحبه بأن يجمع ما رماه من أوساخ من نافذة السيارة آمر بالمعروف(النظافة) وناه عن المنكر (الوسخ) وغيرها من المفاهيم الكلية لهذه الفريضة التي لو التزم بها كل مسلم وأدى فيها واجبه بالنصيحة والنهي لعم الأمان والنظام في المجتمع المسلم ولتحقق مراد الله من العباد ومن الشرائع السماوية.
لكن حقيقة فهم الكثير من المسلمين لهذه الفريضة تغلب عليه الحصرية والاختزالية العجيبة في شكل يتناقض مع مقاصد الدين وينزع عن هذه الفريضة كل احترام في قلوب المسلمين، حتى باتت عبارة ” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” مثار توجس وخوف عند الكثير من المسلمين، حيث تم نزع هذه الفرضية من سياقها الكلي وتم قصرها واختزالها في فرعيات الحياة العامة التي تدخل هي أيضا تحت طائلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن تكثر فيها الشروط والضوابط فليس كل ما يخالف تصورك ينكر، نظرا للاختلاف الطبيعي بين فهوم الناس ومذاهبهم الفقهية ، لذا يلتبس فيها الأمر نظرا لاختلاف آراء فقهاء المسلمين فيها كمواضيع النقاب والموسيقى واللباس وصلاة الجماعة وهلم جر.. هذه الاختزالية لمفهوم الأمر بالمعروف حجرته في فهوم الكثير من المسلمين وممارساتهم في مراقبة شكل تحجب المسلمات وشكل حلاقة الشباب، ومراقبة أذواق الناس وطول لحاهم إلى غيرها من المواضيع التي لا تدخل في ما يسمى المعروف القرآني الذي يتفق عليه كافة المسلمين دون نزاع (التوحيد، إقامة العدل، الأمانة، الأمن، الحياء، الإخلاص، الطهارة، الورع….) ولاتدخل في المنكر القرآني (الشرك، الكفر، الظلم، الغش، الرياء، الجشع، سفك الدماء…) وتندرج أغلبها في ما يسمى بفروع الدين وفي ما لم يكن فيه إجماع بين المسلمين وتعددت فيه الآراء، وبالتالي انتقلت هذه الفريضة من آلية محركة مجددة لحياة المجتمع المسلم ومحركة لركوده، إلى ركيزة لتفتيته وإشاعة الفوضى والاختلاف بين أفراده وتنفيره من أحكام الدين.
والأمرّ في الأمر هو توظيف هذه الآلية السامية في كبت المجتمعات الإسلامية وفضح أستار الناس وسرائرهم في تضاد تام مع النهج القرآني الواضح والصارم ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾. وهو ما تجسده جرائم داعش واخواتها في المدن التي سيطر عليها، وأقام فيه ما يعتقده أمراً بالمعروف ونهيا عن المنكر من تقتيل للناس بالجملة وقتل بالشبهة وإقامة للحدود دون أي تحر وتبين، وفي معاكسة تامة وصارخة لروح القرآن الكريم وروح السنة النبوية الشريفة التي جاءت بالتربية ولم تأتي بالعقاب إلا كحل لحالة مستعصية لم تنفع معها سبل التربية والتوجيه وبات أذاها عاماً غير مستتر.