ليس من الصدفة في شيء أن تكون سورة الفاتحة مفتاح القرآن الكريم، وليس من الصدفة في شيء أن تكون سورة الفاتحة مفتاح الصلاة، وليس من الصدفة في شيء أن يكون مفتاح الدعاء (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (سورة الفاتحة/6)، فالقرآن الكريم يريد أن يكون سؤال الهداية نشيد المؤمنين الذي به يستيقظون وعليه ينامون وفي الأسحار يُردّدون، والمؤمن “لولا احتياجه ليلاً ونهاراً ـ كما قال ابن كثير ـ إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك، فإن العبد مفتقر في كلّ ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها، وتبصره وازدياده منها، واستمراره عليها، فإنّ العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده الله تعالى إلى أن يسأله في كلّ وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق”.
والحقّ أنّ وصف دعاة التكفير بـ”الفرقة الضالة” وصف دقيق، كيف لا؟ وقد آثروا الضلال على الهدى، وسنّة الله في الهداية والضلال: “أن يهدي كلّ من سلك سبيل اليسرى، ، وأن يضل كلّ من سلك طريق العسرى”، وهل يعوز دعاة التكفير العلم؟ لا، فهم على قدر من العلم، وهل يعوز دعاة التكفير العمل؟ لا، فحظهم من العمل غير يسير، ولكن الطامة الكبرى أنّ دعاة التكفير تعوزهم الهداية التي هي نور من أنوار الله يقذفها في قلوب المصطفين من عباده، ولهذا تعلّمنا سورة الفاتحة الإلحاح في سؤال الهداية، لأنّ من فقد الهداية فقد كلّ شيء، ومن رُزق الهداية رُزق كلّ شيء، والذين يتمنون على الله الأماني يحسبون الهداية خبط عشواء، والحقّ أنّ من أراد الهداية فعليه أن يسلك مسالكها، وقد تكفّل القرآن الكريم تبيان أسباب الهداية ومسالكها.
ويستخلص من مجموع تعريفات الضلال المبثوثة في تراثنا أنّه ثلاثي الأضلاع، فهو: عدول عن الطريق المستقيم، وهو: فَقد ما يوصل إلى المطلوب، وهو: سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب، والعجيب أنّ دعاة التكفير ركبوا كلّ أضلاع الضلال، وكأنّ الضلال أطبق عليهم من كلّ أضلاعه؛ فعدولهم عن الطريق المستقيم سارت بذكره الركبان، ولا يختلف حوله اثنان، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيّن أنّ “الطريق المستقيم” و”اجتماع الأمة” لن يفترقا إلى يوم القيامة، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: “سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها” (رواه الترمذي)، ودعاة التكفير يسكنهم هوس شاذ غريب، فكلما وجدوا “اجتماع الأمة” كلما بادروا إلى مناكفته! وسارعوا إلى مخالفته! وغفل هؤلاء ـ وللأسف عن أنّ مناكفة “اجتماع الأمة” ومخالفته آية عدولهم عن الطريق المستقيم، فمن أراد الطريق المستقيم فعليه أن يلزم اجتماع الأمة لأنها لا تجتمع على ضلالة، وعليه أن يسير خلف السواد الأعظم لأن الله عصمه من الشذوذ، فعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: “إنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم” (رواه ابن ماجة).
وفقدهم ما يوصل إلى المطلوب من أوضح الواضحات، ودعاة التكفير يجاهرون أنّ مطلوبهم الذي يريدون الوصول إليه هو: استعادة الخلافة، ولكنهم يجهلون أنهم فاقدون لكلّ ما يُوصلهم إلى المطلوب، فطريق استعادة الخلافة هو: التربية والتكوين التي تثمر النصر والتمكين، ودعاة التكفير أبعد الناس عن التربية والتكوين فأنّى يحصدون النصر والتمكين، وصدق الله العظيم إذ يقول: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (سورة الحج/41)، وقال أيضا( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (سورة النور/55)، وفي تفسير هذه الآية القرآنية الكريمة يقول صاحب التحرير والتنوير: “وهذه التكاليف التي جعلها الله لصلاح أمور الأمة، ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن، صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسبابا لها، وكانت الموعدة كالمسبب عليها فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع”، الذي هو: جعل الشيء سببا يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته.
وسلوكهم طريقا لا يُوصل إلى المطلوب، بل يُوصل وللأسف إلى نقيض المطلوب، فطريقهم “الإسلام التكفيري” ومطلوبهم “الإسلام المحمدي”! فالذي يريد دولة الرّسول الأعظم عليه أن يسلك طريق الرسول الأعظم، والذي يريد دولة الخلفاء الرّاشدين عليه أن يسلك طريق الخلفاء الرّاشدين، والحقّ الذي لا لبس فيه أنّ طريق الرسول الأعظم برىء من طريق دعاة التكفير، وطريق الخلفاء الرّاشدين هو وطريق دعاة التكفير خطّان متناقضان فأنّى يلتقيان، فالذي يسلك طريق “الإسلام التكفيري” لا مراء في أنّ مطلوبه لا يكون إلا الإجهاز على الوصية النبوية الخالدة التي مما جاء فيها: “فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا” فأعادها مراراً، قال ابن عباس: فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته (رواه البخاري)، وهاهو الواقع يشهد كيف أجهز دعاة التكفير على الوصية النبوية الخالدة، فمبلغهم من “المنجزات” سفك الدماء وقتل الأبرياء، ونهب الثروات وسرقة الأقوات، وهتك الأعراض واغتصاب النّساء، وللأسف فإنّ هذه “المنجزات” هي إجهاز على الإسلام، وتشويه لتركة النبي العدنان، وصدّ عن سبيل الرّحمان.
وقد ورد في الحديث أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان كثيراً ما يدعو ويقول: “يامقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك” (رواه أحمد)، فالحديث النبوي يعلّمنا أنّ المؤمن عليه أن لا يكتفي بسؤال الهداية، وإنما عليه أن يُعزّزه بسؤال الثبات على الهداية، فما أكثر الذين يهتدون ولكن لا يثبتون وتراهم يتساقطون في أودية الضلال، وحديث حذيفة بن اليمان يبيّن هذه الآفة غاية التبيان، إذ جاء فيه: “إنّ ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى رئيت بهجته عليه، وكان ردئاً للإسلام، غيّره إلى ماشاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك، قال: قلت يانبي الله!! أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال: بل الرامي” (رواه البزّار)، وحقّا إنّ القلب إنما سمي قلبا لسرعة تقلّبه، فلا عجب أن يكون ديدن السّلف المبالغة في تفقد قلوبهم فهم لا يفترون عن حراستها، ولهذا فإنّ البحث عن آليات الثبات على الهداية، من أولى الأولويات، ومن أوكد الواجبات، في هذا العصر الأنكد الذي أطلت فيه فتن التكفير كقطع الليل المظلم.
وإذا بانت هذه الحقائق عرف المرء لماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّما أخاف على أمتى الأئمة المضلين” (رواه الترمذي)، وغني عن البيان أنّ مدار “الأئمة” على أهل العلم وأهل الحكم، ولهذا ورد في جامع بيان العلم وفضله: “صنفان من أمتي، إذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت الأمة: السلطان والعلماء”، فإذا استغل فساد السياسة ضلال الدين، واستخدم ضلال الدين فساد السياسة، فعلى الدين والسياسة والدنيا العفاء، والأمة إذا رزئت بأئمة ضالين مضلين سحبوها إلى جحيم الضلال، وإذا رزقت أئمة هادين مهتدين أخذوا بيدها إلى رياض الهداية، والخطر كلّ الخطر أن يوظَّف دعاة التكفير علموا أم لم يعلموا في تحقيق أجندات بعض الدوائر السياسية، وهل يرتاب مرتاب في أنّ “أفعى” هذه الأجندات إشغال الأمة بنفسها، وإشعال بأسها بينها، حتّى لا تنهض بحاضرها، ولا تلتفت إلى مستقبلها، وتبقى على قارعة التاريخ، وعلى هامش الحضارة، تُنهب مواردها، ويُستأثر بثرواتها، والدّاهية الدّهياء تحوّل الضلال إلى “صناعة”، تشرف عليها مخابر مشبوهة، ودوائر مغرضة، مبلغ همها إيقاع الأمّة وخاصة عمادها الذين هم شبابها في مستنقعات الضلال.
*أحمد رشيق بكيني رئيس المركز الثقافي الإسلامي ـ سطيف ـ الجزائر