أحاديث الملاحم والفتن: دعوة للتعقل والمراجعة

من قسم افتراضي, المقالات. منذُسنة واحدة.2019-09-04T12:25:11+03:0012:00 صباحًا الإثنين 20 نوفمبر 2017 م / _20 _نوفمبر _2017 ه‍|

تستند الكثير من الحركات المتطرفة في العالم الإسلامي إلى منظومة ضخمة من الأحاديث والفتاوى المحرفة والمنزوعة من سياقاتها لتبرير اختياراتهم الفقهية والسياسية، ولتبرير حجم العنف والتطرف الذي يتبنونه كمنهج للحياة. ولعل من أهم الأسانيد التراثية التي يستمتع دعاة التطرف وحركات الجهاد المعاصر بإيرادها وتكرارها هي أحاديث الفتن والملاحم، التي يجدون فيها سنداً حديثياً يبرر وجودهم، ومطمئناً نفسياً لهم بأنهم على الطريق المستقيم مادام أنهم يحققون ما تنبئ به رسول الله. ولا يغيب عن أذهاننا في هذا المقام تلك التسجيلات التي كان يبثها تنظيم القاعدة والتي تصف أسامة بن لادن بالقحطاني اليماني الذي ورد في بعض الأحاديث المنسوبة لرسول الله عن حوادث آخر الزمان. ولعل الفتنة القائمة في بلاد الشام وبروز داعش وتشكيلة المجموعات المسلحة التي تقاتل هناك؛ أبرز دور أحاديث الفتن أو الأحاديث السياسية -إن صحت التسمية- في بلورة وصياغة وعي هذه الجماعات وطريقة فهمها وتحليلها للأحداث.

ولنأخذ لهذا مثلاً وهو حديث الأعماق أو دابق الذي رواه مسلم عن زُهيْرُ بن حَرْبٍ، عن  مُعَلَّى بن مَنْصُورٍ، عن  سُلَيْمَانُ بن بِلَالٍ عن سُهَيْلٌ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: “”لاتقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق – أو بدابِقَ – فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ ، فإذا تصافوا ، قالت الروم : خلوا بينا وبين الذين سُبُوا مِنَّا نقاتلْهم، فيقول المسلمون : لا والله، كيف نُخَلِّي بينكم وبين إخواننا ، فيقاتلونهم ؟فينهزم ثُلُث ولا يتوب الله عليهم أبدا ، ويُقتَل ثلثُهم أفضل الشهداء عند الله ، ويفتتح الثلث، لا يُفتَنون أبدا ، فيفتَتحِون قسطنطينية ، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد عَلَّقوا سُيوفَهُهْم بالزيتون ،إذ صاح فيهم الشيطان : إنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ فد خَلَفَكم في أهاليكم، فيخرجون ، وذلك باطل ، فإذا جاؤوا الشام خرج ، فبيناهم يُعِدِّون القتال ، يُسَوُّون صفوفَهم ، إذا أقيمت الصلاة ، فينزل عيسى بن مريم ، فأمَّهم ، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب في الماء فلو تركه لا نزاب حتى يهلك ، ولكن يقتله الله بيده -يعني المسيح- فيريهم دَمه في حربته”.

هذا الحديث مثّل لداعش سنداً حديثياً ركيزاً ووظّفه في حملته الإعلامية كمسوّغ ومبرّر لظهور هذه الحركة في مسرح الأحداث، وسارع إلى الاستيلاء على مدينة دابق السورية كمحاولة منه لصبغ شرعية دينية على جرائمه، بل و استلهم ألفاظ هذا الحديث في تسمية أذرعه الإعلامية كوكالة أعماق الإخبارية الناطقة باسم التنظيم، وسمى الصحيفة التي يصدرها التنظيم بإسم ” دابق”. ولم تطل الأيام حتى سقطت المدينة في أيدي القوات السورية ودحر داعش منها ولم تتحقق أي من الوقائع المذكورة في الحديث وغرق داعش ومناصريه في حرج كبير بسبب هذه النكسة.

في هذه العجالة نحاول مناقشة صحة هذا الحديث من وجهة نظر علماء النقد والجرح والتعديل، لنثبت أن المغامرة باستقرار الأمة وتعريض أمنها للخطر و استخدام أحاديث الفتن في تفسير الأحداث المعاصرة يحمل مغالطة منهجية وشرعية عظيمة الأثر على الإسلام وصورته في العالم أجمع.

إن ورود الحديث السالف في صحيح مسلم أبعده عن أي شبهة طعن في عرف الكثير من الجماعات السياسية وجماعات العنف والتطرف، فكون الحديث في مسلم –حسب زعمهم- يكفيه من الصحة والوثوق للاعتماد عليه في فهم وتوجيه الأحداث وفق التصور الذي يعرضه هذا الحديث. وغاب عن أذهانهم أن ورود الحديث في مسلم أو غيره ليس بطاقة ضمان له من النقد والطعن في صحته.

الحديث أخرجه إضافة للإمام مسلم، الإمام ابن حبان في صحيحه ورواه أبو عمرو الداني في “السنن الواردة في الفتن”، عن طريق عبيدالله العمري وهو راوي غير موثوق، وقد حكى النسائي  مخالفته لمن هو أوثق منه. وقال عنه الحافظ الذهبي في «الميزان»: “عبيدالله بن محمد بن عبدالعزيز العمري: من شيوخ الطبراني. يروي عن طبقة إسماعيل بن أبي أويس. رماه النسائي بالكذب”. لذا فرواية أبو عمر الداني مستبعدة نظراً لورودها عن عبيد الله العمري.

أما رواية الإمام مسلم التي يستحب الكثيرون إيرادها والاستدلال بها، فقد وردت من طريق واحد فقط وهو عن سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة، فهي إلى كونها حديث آحاد تفرد بها سهيل عن أبي هريرة ولا يعرف لها أي طريق آخر غير هذا. فهي من مرويات سهيل بن أبي صالح الذي يتفرد عن أبيه عن أبي هريرة بأحاديث لا يتابعه أحد عليها، وهو ما يثير الشبهة في صحة رواياته، لذا تجنّب الإمام البخاري الاعتماد عليه في رواية الأصول، وروي لها عدداً قليلاً من الأحاديث في المتابعات والشواهد. وقد كان سهيل هذا من الثقات بل ومن كبار الحفاظ حسب علماء الجرح والتعديل إلا أنه تغيّر فصار يُخطئ ويهم بسبب وفاة أخيه الذي حزن عليه كثيراً حتى مرض، فخفّ حفظه وضبطه. قال البخاري مبرراً عدم الرواية له في الأصول :”سمعت علي بن المديني يقول: كان قد مات له أخ فوجد عليه فنسي كثيراً من حديثه”، ونقل عبّاس الدوري عن يحيى بن معين قوله: “سهيل بن أبي صالح والعلاء بن عبدالرحمن حديثهما قريب من السواء، وليس حديثهما بحجة”.، وأضاف يحي بن معين قائلا عن سهيل هذا:”لم يزل أصحاب الحديث يتّقون حديثه”. ونقل العقيلي عن يحيى معين نفسه طعناً ليناً في سهيل قائلاً فيه: “هو صويلح، وفيه لين”. وقد تابع  أبو حاتم ابن معين ومن سبقه في رأيهم عن سهيل فقال: “يُكتب حديثه، ولا يُحتج به”، كما أن ابن حجر في معرض تبريره لرواية الإمام مالك عن سهيل قال: ” وقد روى عنه مالك وهو الحكم في شيوخ أهل المدينة الناقد لهم، ثم قيل في حديثه بالعراق أنه نسيى الكثير منه وساء حفظه في آخر عمره”.

فالحديث واضح الضعف، ولا يدرى كيف تساهل الإمام مسلم مع رواياته فروى له في الأصول والشواهد على حد سواء بخلاف البخاري الذي تفطن لضعف أحاديث سهيل وهوان مروياته. وقد حاول الحاكم  تبرير هذه الهنة للإمام مسلم فخصص لذلك باباً في كتابه “المدخل” عنونه بـ”في باب من عِيب على مسلم إخراج حديثه” فقال: “سهيل أحد أركان الحديث وقد أكثر مسلم الرواية عنه في الأصول والشواهد، إلا أن غالبها في الشواهد”. علماً أن سهيل هذا معروف في كتب الرواية بغرائب الحديث وقد روى عدداً منها الحافظ في “السير” من باب التدليل على غرابة أحاديثه. هذا عن سند الحديث أما عن متنه فالكلام في تناقضه مع وقائع التاريخ ومسلمات الحال واضح، ولامجال لمناقشته في هذا المقام.

علماً أن هناك أحاديث أخرى مقاربة لهذه الحديث في متنها تعرف بأحاديث ملاحم الأعماق أوردها نُعيم بن حماد في كتاب «الفتن» من رواية كعب الأخبار ومن رواية غيره، وكلها بإجماع المحققين منكرة لا يصح الاستدلال بها.

إذا كان هذا حال حديث دابق وقد ورد في الصحيح، فما بالنا بغيره من أحاديث الفتن التي يستلذ المتطرفون بإيرادها والإكثار منها لتبرير جرائمهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية.

وفي ختام هذه المقالة نورد أن نورد جملة من النقاط المنهجية والاحترازات الشرعية في التعامل مع هذه النصوص:

تصنف أغلب أحاديث الفتن والملاحم كأحاديث آحاد، ولا يصمد أغلبها أمام مطارق النقد الحديثي، بل إن أغلبها يصنف في خانة الأحاديث المنكرة والموضوعة، لذا الاعتماد عليها في تبرير وتفسير الأحداث تعتبر مجازفة كبيرة وخطر على تعاليم الإسلام واستخفاف بالعقول وسذاجة في فهم السياسة وتطور أحداث التاريخ.

تتضارب هذه الأحاديث وتتناقض بشكل صريح وبالتالي يصعب بل ويستحيل استخراج تصور عام لصيرورة الأحداث منها، وهو ما يطعن في مصداقيتها ومنهجية توظيفها في الاستدلال من الأساس.

خطورة تنزيل هذه الأحاديث الآحاد والضعيفة في مجملها على واقع المسلمين اليوم، نظراً للقصور السنني الذي تبني عليه تفاصيل الوقائع في هذه الأحاديث، والأدهى من هذا هو استخدام هذه الأحاديث في ذبح الأمة وهدّ استقرار مجتمعاتها وفرط حبل الوصال والأمن فيها، بناءاً على تفسيرات غير منضبطة لأحاديث غير ثابتة في مجملها.

يعمد المتطرفون إلى إخفاء العديد من أحاديث الفتن والملاحم، التي تحض المسلم على التزام بيته واعتزال الفتنة والابتعاد عنها. ويعرضون صفحاً عن عدد كبير من الآثار الثابتة والصحيحة التي لا تخدم عقائدهم رضوخاً منهم لغريزة القتل والدم والهدم التي تسود خطابهم وتلوث نفوسهم.


* الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة