من المسلمات في الإسلام أنّا جميعا أبناء أبينا آدم وأمنا حواء إخوة في الإنسانية لأنّا جميعا ابناء رحم واحد، نقرأ ذلك في مستهل سورة النساء وهي السورة الرابعة في ترتيب القرآن الكريم في قوله تعالى:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.)
وإنك لتشهد ذلك معي في رحاب القرآن العظيم وهو يعتبرنا أسرة واحدة ويذكرنا بواجبنا القيمي الأسري تجاه بعضنا البعض مهما اختلفت مواقفنا واهتماماتنا ونوازعنا يتجلى ذلك بحثه لنا على الالتزام بتقوى الله في كل أحوالنا وبصلة الرحم ورعايتها الدائمة والإحسان لبعضنا باعتبار ذلك كله من حقوق الرحم التي أمرنا بها وحفزنا عليها إسلامنا العظيم، وقد نبهتنا الآية الكريمة أنا في حال إخلالنا بحسن التعايش مع أسرتنا الإنسانية فإن الله سائلنا عن أي تقصير نقع فيه مع إخواننا في الإنسانية. (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)
وسبيلنا إلى ذلك كما وجّهنا إليه الهدي الرباني في القرآن والسنة واحد فقط هو التعايش مع أنفسنا والمختلف عنا أينما كنّا وحيثما كنّا في العسر واليسر والمنشط والمكره.
والتعايش هو أن نعيش مع الآخر، ومنه قولهم تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودة، وهو الذي يطلق عليه اليوم في المصطلحات المعاصرة “التعايش السلمي.”
والتعايش في المفهوم الإسلامي كما أفهمه من الإسلام هو:
‘ أن نعيش أفرداً وجماعات مع الناس جميعا باختلاف معتقداتهم وأعراقهم ومعتقداتهم ومراتبهم بالإنصاف والاحترام والمودة والرحمة والتعاون على الخير والمعروف والإحسان، مع اداء الحقوق لهم دون من ولا أذى؛ ذلك لأنّا جميعا أعضاء في الأسرة الإنسانية الكبرى.’
ويؤكد هذا الاعتبار البالغ في الإسلام لحق الحرية لكل إنسان في كل شيء، ومن ذلك حرية المعتقد فلا عقائد بالإكراه، ومبنى العقائد الرئيس في الإسلام هو حق كل إنسان في ألا يدين باعتقاد ألا بعد اقتناع.
نقرأ هذا في قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)، ونقرأه في قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.) (يونس:٩٩)
كما يؤكد اعتبار الإسلام للتعايش أنه جاء ليدعوا الناس جميعا إلى معتقده وهديه وهذا لا يتأتى كما ألمحنا إلا عبر الدعوة غير المباشرة للآخر بالمعاشرة السلمية الودية والحوار والثقة والاقتناع وتقديم الأنموذج الذي يعكس القيم الراقية التي يعززها الإسلام.
والأصل الذي قرره الإسلام لنا في علاقتنا مع جميع افراد الأسرة الإنسانية الواحدة هو السلام والتعارف والتعاون على البر والتقوى نشهد هذا في القرآن الكريم في قوله تعالى:(يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى. وجعلناكم شعوبا. وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير.) (الحجرات:١٣)
كما أنه من الأصول الهامة للتعايش السلمي هو تقرير الإسلام أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن يتبعه هو الدعوة الحكيمة للإسلام يؤكد هذا قول الله تعالى:
(وما على الرسول إلا البلاغ المبين) (النور:٥٤)، وقوله تعالى:(فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا، إن عليك إلا البلاغ) (الشورى:٥٤).
وهذا ما قدمه لنا رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم منذ أن اصطفاه الله بالرسالة وكلفه أن يدعوا العالمين للإسلام باعتباره الدين الأكمل لإنسان كل زمان وإنسان كل مكان.
نجد ذلك منه صلى الله عليه وسلم في العهد المكي للدعوة في مرحلتيها السرية والجهرية، كما نشهده لذلك في العهد المدني للدعوة إلى آخر ساعة من حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم.
وبجملة واحدة نقول الدعوة الإسلامية دعوة سلمية من البداية للنهاية بدخول دار السلام.
والدعوة السلمية لا تتأتى إلا عبر التعايش السلمي الراقي مع الذات ومع الآخر ولهذا جاء التوجيه الرباني ينير لنا السبيل ويقينا خطر الانزلاقات فيما لا يليق ولا يرتضيه نقرأ هذا في قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بها سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) (الكهف:٢٩)
ولنتوجه معا شطر الساحة العملية للتعايش السلمي في الإسلام لنتأسى ونتعلم ونتبع ونقتدي وذلك عبر السنة والسيرة النبوية الشريفة من صاحب الرسالة ومنبع العظمة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلقد بعث صلى الله عليه وسلم في وسط الجزيرة العربية، وهي لا تدين بالهدى بل تئن من قتامة جاهلية المعتقد بعض المفاهيم والعادات والجور والسخف ويشيع فيها الشرك والإلحاد وقليل من اتباع الديانات السابقة ممن حرفوها وبدلوا فيها.
ففي مكة المكرمة حيث ولد صلى الله عليه وسلم في بيت سيد ساداتها ونشأ فيها متميزا عن شبابها برجاحة العقل والخلق القويم وقد صرفه ربه وصانه عن الشرك والوثنية والعصبية الجاهلية وحلاّه بالخلق القويم وميزه بالرأي السديد، وجعله في أهلها على ذرى القيم الأصيلة التي يلتف الناس على صاحبها ثقة فيه واطمئنانا له تمثلت بكل القيم النبيلة وعلى رأسها الصدق والأمانة وبلغ أن بعضهم مع اختلافهم معه حول ما يدعوهم إليه من توحيد الله جل في علاه إلا أنهم استمروا في استئمانه على أموالهم وحاجاتهم المهمة.
وكان يحيا بينهم الحياة الطبيعية ودا وسلاما واحتراما ووفاء وتقديرا وبرا مع ما ناصبه بعض أهلها العداء وقابلوا دعوته بالأذى والسخرية وهو الذي يربيه القرآن على مبدأ (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فجعل صلى الله عليه وسلم يقول لهم متجملاً بعظيم القيم مقابل الضر الذي يصيبه وصحبه من بعضهم (غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها).
يغشى أسواقهم ويجلس في منتدياتهم وحجهم في منى، وهو بهم البر الكريم ولما بلغ الضر من بعضهم على معظم أصحابه مبلغا خطيرا مما اختل معه التعايش السلمي من جهة رؤوس الشرك في مكة كان توجيهه لأصحابه أن يتوجهوا لمكان يتميز بالتعايش السلمي الصحي النموذجي فكانت الهجرة الأولى والثانية للحبشة لبعض أصحابه وقضوا هناك سنوات يتعايشون مع الحبشة بقيم الإسلام النبيلة ويقدمون نموذجا رائعا للتعايش السلمي ولم يعد من هجرتها منها بعضهم ومنهم سيدنا جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة النبوية الشريفة للمدينة المنورة بخمس سنوات قبيل فتح خيبر.
بينما بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش في مكة المكرمة مع قلة من صحبه مقدما النموذج الأرفع للتعايش السلمي. فيهم فلا يقابل سيئاتهم بالسيئة، لكن يدفع أذى من يعاديه منهم بالصبر والترفع يدعوهم للتي هي أقوم بالحكمة، وإن جادلوه حاورهم بالتي هي أحسن هو وصحبه الذين بقوا معه يحفزهم على التفكير المنطقي الراقي ومناقشة الأمور بموضوعية وتجرد يوقر كبيرهم ويقول له: يا عم.
ويحسن الاستماع لما يقولونه ثم يحاورهم أجمل ما يكون الحوار ويتقلب بينهم. متحلياً بالمثل العليا والخلق القويم. وجاء القرآن العظيم يشهد له بلوغه ذروة الخلق القويم فقال سبحانه مثنيا عليه في آية تتلى ليوم القيامة (ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإنك لعلى خلق عظيم) (نون:٣-٤).
د. محمد بشير حداد .أكاديمي