تعاني الحركات الجهادية والمتطرفة من إشكال مزمن يسبب صدعاً كبيرا في مرجعتيها ومدى ارتباطها بالتعاليم الحقيقة للدين الإسلامي، يتمثل هذا الإشكال المنهجي والتاريخي في أن معظم قادة ومنظري هذه الحركات هم من غير المتخصصين في العلوم الشرعية، ولم يكن لهم تحصيل علمي واسع في علوم القرآن والسنة التي من المفترض أنهم يستندون عليها في اصدار فتاويهم بالتكفير وتحليل الدماء هنا وهناك.
إن ما يؤرقني هو التساؤل الذي يقول لماذا لم يعلن إحدى علماء الأزهر الكبار أو علماء الحرمين أو جامعة القرويين أو غيرهم من علماء الجامعات الإسلامية الكبرى الجهاد والنفير للحرب هنا وهناك مثلما يفعل شباب أغلبهم مهندسون وجنود سابقون ومن ذوي التحصيل العلمي الضعيف في علوم الدين؟ ثم لماذا لا يفجر طلبة العلوم الشرعية وما أكثرهم أنفسهم في الشوارع والمقاهي كما يفعل الكثير من شبابنا المتطرفين –للأسف-من خريجي كليات الهندسة والطب والعلوم ومن عديمي المستوى العلمي؟ ثم لماذا تأسست أغلب الحركات الإسلامية الحديثة على يد أناس ليس لهم علاقة وطيدة بالعلوم الشرعية الرصينة؟ أليس من الممكن أن ضعف فهم مقاصد الشرع الحنيف والعجز عن فهم تكامل أحكامه هو المفسر لظاهرة كثرة التطرف في أوساط قليلي الدراية والمعرفة بالعلوم الشرعية! وهي نفسه ما يفسر قلة نسبة التطرف عند المتضلعين في علوم الشرع والمتخصصين فيها!؟
في دراسة أعدها مركز صوت الحكمة في أكتوبر 2016 تتبعت الخلفيات العلمية لما يزيد عن 45 قيادياً من كبار قادة الحركات الجهادية ومن كبار المنظرين لها، وأثبتت أن 3 منهم فقط تلقوا تعليماً جامعياً دينياً بينما كان 13 منهم منهدساً من قليلي الدراية بالعلوم الشرعية، كما أن 10 منهم كانوا من ذوي المستوى العلمي المتدني ولم يتجاوزوا عتبة التعليم الثانوي، وكان منهم 7 من ذوي الخلفية العسكرية من رجال شرطة سابقين وضباط في الجيش فارين أو مفصولين عن مناصبهم. وخرجت الدراسة بملاحظة مثيرة للانتباه وهي أن التطرف والميل إلى الانضمام إلى الحركات العنيفة والإرهابية يزيد عن خريجي كليات الهندسة مقارنة بغيرهم، فيكفي أن نشير إلى أن أول ثلاث حركات متطرفة ظهرت في العصر الحديث في العالم الإسلامي في نهاية الستينات وبداية السبعينات كانت قد تأسست على يد ثلاثة مهندسين وهم شكري مصطفى مؤسس حركة الهجرة والتكفير، وصالح سرية مؤسس حركة الفنية الحربية (كان أستاذ للفيزياء والعلوم)، وعبد السلام فرج إحدى أهم مؤسسي الجماعة الإسلامية في مصر وصاحب كتاب ” الفريضة الغائبة” المشؤوم. فالتوارد بين الهندسة والتطرف يثير العديد من الاستفهامات والتساؤلات عن وجه العلاقة بين الهندسة والتطرف والغلو.
فلنقي هنا نظرة عن واقع العمليات الإرهابية ومنفذيها لنزيد هذا التساؤل عمقاً، ففي 13 أكتوبر 2009 فجر الليبي محمد غام نفسه بعبوة ناسفة في ثكنة عسكرية بمدينة ميلانو الإيطالية وكان مهندسا إلكترونياً متخرجاً من إحدى الجامعات الإيطالية، وفي 25 ديسمبر من السنة نفسها حاول عمر فاروق عبد المطلب تفجير طائرة فوق ديترويت بالولايات المتحدة عن طريق عبوة ناسفة، وكان عمر فاروق عبد المطلب ابن عائلة نيجيرية برجوازية وخريج كلية لندن الجامعية في الهندسة، وفي فبراير 2010 هاجم مهندس الكمبيوتر جوزيف أندرو ستاك مبنى آشلون في مدينة أوستن بطائرته في عملية انتحارية هزت دوافعها الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مارس من السنة نفسها أطلق المهندس جون باتريك بيدل النار على مدخل مبنى البنتاغون وأصاب ضابطين كانا يقفنا عند البوابة، بينما في ماي من السنة نفسها تم اعتقال مهندس الكمبيوتر فيصل شاهزاد في مطار جون كيندي بعد فشل محاولاته في تفجير قنبلة في ساحة تايم سكوير الشهيرة في نيويورك، وفي الشهر نفسه تم إلقاء القبض على المهندس فايز محمد في مطار كراتشي متلبسا بإخفاء بطاريات ودارت كهربائية تستخدم في صناعة القنابل مخبأة في حذائه، كما أن من جملة 19 قاعدياً من الذين نفذوا هجمات 11 من سبتمبر كان منهم 8 مهندساً ولم يكن من المجموعة كلها شخص واحد متخصص في العلوم الإسلامية. علماً أن الثلاثة الذين خططوا لتفجيرات 2004 التي ضربت السفارة الأسترالية في جاكرتا كانوا مهندسين، كما كان رمزي يوسف وزمليه إياد إسماعيل مهندسين وهما من المجموعة التي خططت ونفذت هجمات 1993 على مركز التجارة العالمي. وفي دراسة للباحث التونسي المتخصص في التاريخ الإسلامي محمد الأحمر الخبير التونسي في التاريخ الإسلامي أثبت فيها أن ما يزيد على 60 بالمائة من الجهاديين التونسيين من الذين انضموا لداعش وفروع القاعدة هم مهندسون ومن قليلي الدراسة والمعرفة بالعلوم الشرعية. كما تشير دراسة أخرى أجراها مركز صوت الحكمة على أشهر 104 اسماً في عالم التطرف والحركات الجهادية، وحصر فيها أسماء المؤسسين والمنظرين فقط للحركات الإسلامية المتطرفة، وخرجت الدراسة إلى أن 26 من القائمة كانوا مهندسين أي بمعدل الربع، وكان الربع الآخر من عديمي المستويات العلمية، وتقاسمت كافة التخصصات الأخرى من طب وقانون وإقتصاد وشريعة نصف الشريحة المدروسة.
هذا التزايد الملفت للانتباه للمهندسين في سلم الحركات المتطرفة يذكرنا بالمباهاة الشهيرة لأيمن الظاهري أمام الدكتور عبد الله شليفر أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية بالقاهرة حين أخذه سنة 1974 في جولة في كلية الطب بجامعة القاهرة وأخبره أمام مشهد طلبة إسلاميين يستعدون للتظاهر من أن الجماعة الإسلامية التي كان عضوا فيها لقيت نجاحا وانتشارا كبيرا بين طلبة الطب والهندسة في الجامعة بخلاف طلبة الكليات الأخرى. وهو ما يذكرنا بالدراسة التي أجرها عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم سنة 1981 حول 34 من أعضاء تنظيم الفنية الحربية الذي أسسه أستاذ الفيزياء والعلوم صالح سرية وجماعة التكفير التي أسسها المهندس الزراعي شكري مصطفى، والذين كانوا في المعتقلات المصرية في نهاية السبعينات، واستنتجت الدراسة أنه من بين 34 معتقلا كان منهم 29 من طلبة الجامعات أو حاملي الشهادات الجامعية، ومن بين 29 جامعيا كان منهم 9 مهندسين في التخصصات التقنية وخمس مهندسين زراعيين، 7 أطباء، و2 صيادلة، و2 من طلبة العلوم العسكرية التقنية، وواحد فقط خريج كلية الآداب.
هذا الغرام بين الهندسة والتطرف أكدته دراسة معمقة جداً قام بها مؤخراً كل من دييغو قامبيتا وستيفن هيردوغ تحت عنوان “مهندسي الجهاد: العلاقة المحيرة بين التطرف العنيف والتعليم” ونشرتها جامعة برنستون سنة 2016، وتتبعت سيرة قرابة 497 متطرفاً مسلماً ينتمون كلهم لإحدى الجماعات الجهادية المتطرفة، وينتمون لـ 35 جنسية من جنسيات العالم الإسلامي، وتشمل القائمة على ناشطين متطرفين منذ السبعينات إلى سنة 2011. وأثبتت الدراسة أنه من بين 497 الذين شملتهم الدراسة تم الوقوف بشكل تفصيلي على المستوى التعليمي لـ 436 منهم، وكان من بين هؤلاء الـ 436 عنصراً، 28 عنصراً فقط من ذوي مستوى علمي أقل من الابتدائي بينما أنهى 76 منهم المرحلة المتوسطة، بينما وصل منهم 231 منه إلى مستوى التعليم الجامعي أي بنسبة 69 % من العينة المدروسة، ومن بين 231 من ذوي التعليم الجامعي العالي درس 40 منهم في جامعات غربية. كما أنه من بين 231 ممن درسوا في الجامعة بينت الدراسة أن 207 منهم فقط أنهو دراستهم الجامعية وتحصلوا على شهادة جامعية.
الغريب في الأمر أن 93 عنصراً أي ما يمثل نسبة 44.9 من بين 207 الذين انهو دراستهم الجامعية كانوا مهندسين، أو لهم درجات علمية أعلى من شهادة مهندس في إحدى الفروع الهندسية، وهو ما يقارب النصف تقريبا. وإذا جمعنا إليهم نسبة الذين كانوا من ذوي تخصصات الطب (21عنصراً) والعلوم (8 عناصر) والتي تعتبر تخصصات النخبة فإن النسبة ترتفع إلى 58،9 %. وقد سيطرت التخصصات الهندسية الثلاثة المدنية، وإلكترونيك والكمبيوتر على الأغلبية الساحقة من عناصر العينة المدروسة. هذا الارتفاع المهول لنسبة المهندسين بين صفوف المتطرفين من الصف الأول والثاني والذي يعادل أربعة أضعاف عدد المتطرفين من التخصصات الثانية، يجبرنا على محاولة فهم اللغز والمعادلة التي جمعت بين تخصص يعتبر تخصص النخبة وبين التطرف والإرهاب الذي عادة ما يرتبط في أذهاننا بالمغرر بهم من ذوي المستويات العلمية المتدنية أو عديمي التحصيل العلمي.
فهل العامل الاقتصادي والوضع المالي له دور في استقطاب أكبر عدد ممكن من المهندسين الذين عادة ما يصدمون بواقع مرير بعد تخرجهم من الجامعات، حين يعجز أكثرهم في الحصول على عمل يبدع فيه؟، أم أن حاجة الجماعات المتطرفة إلى مهندسين يتقنون صناعة المتفرجات وصناعة الأسلحة هو السبب في تركيزها على استقطاب المهندسين أكثر من غيرهم من خريجي التخصصات الأخرى؟ أم هنا سراً ما في تخصص الهندسة ذاته هو الذي يقولب المتخصصين فيها وفق أنماط فكرية معينة يسهل انجرافها للتطرف والغلو.
ولنبدأ بالعامل الأول وهو أن البطالة وغياب فرص العمل هي السبب، فبالرغم من أن الدراسة السالفة الذكر أثبتت أن نسبة التطرف بين المهندسين أعلى من غيرها في كل الدول 35 الإسلامية التي ينتمي لها 497 فرداً الذين أجريت عليهم الدراسة، ولم تشذ من هذه الدول عن القاعدة إلا دولة واحدة وهي السعودية التي لم تشهد تزايد وتيرة التطرف عند المهندسين فيها مقارنة بخريجي التخصصات الأخرى، فمن بين العينة المدروسة كان هناك 33 سعوديا، 12 منهم فقط كانوا ذوي تحصيل علمي جامعي، ولم يكن من بينهم سوى مهندسين اثنين فقط ممن انظموا للحركات المتطرفة. قد يجيب هذا التفرد السعودي عن الإشكال، فالخريجون السعوديون في أقسام الهندسة عادة ما يحصلون على وظائف ذات دخل عالي في بلدهم، ولا يضطرون للهجرة بحثاً عن العمل، وبالتالي انخفضت نسبة المتطرفين من بينهم. لكن هذه الإجابة قد تصدق على حال مهندسي السعودية لكنها لا تصدق عن بقية العينة المدروسة، فقد كان الكثير من المهندسين المتطرفين من ذوي المناصب المرموقة على سبيل المثال أزهري حسين العقل المدبر لتفجيرات بالي سنة 2004 و2005 كان مهندساً وحاصلا من جامعة ريدنغ البريطانية على درجة الدكتوراه في الهندسة وأستاذاً ناجحاً في إحدى الجامعات الماليزية المرموقة. كما أن عمر فاروق عبد المطلب كان سليل عائلة غنية ولم يعاني يوماً من قلة الحاجة، وهو حال الكثير من العينات التي تناولتهم الدراسة حيث حصل أغلبهم على مناصب في شركات بعضها شركات عالمية مرموقة.
أما عن احتمال أن الجماعات المتطرفة تتقصد استقطاب المهندسين إلى صفوفهم لاستغلال مهاراتهم التقنية والعلمية في صناعة المتفرجات، فقد أثبتت دراسة دييغو قامبيتا وستيفن هيردوغ أن هذا الاحتمال باطل بدليل أن عدد المهندسين الذي تخصصوا في صناعة المتفجرات لصالح الجماعات المتطرفة يوازي عدد صانعي المتفجرات من التخصصات الأخرى، حيث أتقن الكثير من أصحاب التخصصات غير الهندسية صناعة المتفجرات من خلال الدورات السرية التي تلقوها في معسكرات التدريب، كما أن صنع المتفرجات لم يعد يتطلب مهارات جامعية فائقة.
يبقى الاحتمال الثالث وهو أن طبيعة الهندسة هي التي لها تأثير في ميل الكثير من المتخرجين منها إلى التطرف، وهو الرأي الذي مالت إليه الدراسة السالفة الذكر حيث أشارت إلى أن هناك منطق خفي في المجتمع يقول إن احتمالية أن تصاب بصاعقة هي واحد في المليون، بينما احتمالية أن يصاب مهندس بصاعقة هي أربع في المليون، أي أن احتمالية أن يتطرف واحد من العامة هي واحد من مليون بينما احتمالية أن يتطرف مهندس هي أربعة من مليون، كيف؟ ولماذا؟
أرى والله أعلم أن طبيعة الهندسة ذاتها والقوانين الحاكمة لها ذات الحل الواحد والمسائل الفيزيائية التي لا تقبل إلا طريقة واحدة للفهم والحل هي من تأثر على عقلية الدارس لهذا الفرع من العلوم، ففي الفيزياء والعلوم الهندسية تضيق دائماً فرص تعدد الحل للمسألة الواحدة، وتنحصر عادة في حل واحد خاضع لقوانين الطبيعة، فمتى تنبه له ذكاء المهندس تنتهي المسألة، وتبدأ رحلة تحدي مسائل أخرى عالقة، وهو منطق يختلف تماماً عن منطق العلوم الفلسفية والاجتماعية التي تتعامل مع الظاهرة الإنسانية المتعددة الأوجه وبالتالي تتعدد الفهوم لها و تكثر الحلول والآراء حولها. وهو الأمر نفسه بالنسبة للعلوم الدينية العقدية منها والفقهية التي لا تخضع المسائل فيها لمنطق الحل الوحيد، إذا يستحيل أن تجد مسألة واحدة فرعية فقهية كانت أو عقدية إلا وعشرات الآراء والفتاوى والتخريجات قد قيلت فيها، وبالتالي يتسع البال في هذه العلوم الإنسانية والشرعية لتعدد الآراء واختلافها بل وتناقضها أحياناً، وهو ما يؤثر بشكل حتمي على عقلية الممارسين لهذه العلوم والمتخصصين فيها، فتقل عندهم الحدة ويكثر بينهم عذر المخالف.
فإذا استخدمنا المنطق الذي يحكم العلوم الهندسية والفيزيائية -المرتكز على القوانين الطبيعية الحتمية التي لا تتغير ولا تقبل التعدد- في فهم القضايا الدينية والمسائل الفقهية تولد عندنا مباشرة العقلية الحدية التي يشترك فيها كافة المتطرفين، والتي لا تؤمن بتعدد الحلول والفهوم للمسألة الفقهية أو العقدية الواحدة، وترى الحق واحداً لا يتجرأ ولا يتنوع، وبالتالي ترى رأيها الذي اقتنعت به هو الحق الأوحد، وبالتالي تعتبر نفسها صاحبة الحق الوحيد في التعبير عن الحقيقة، ومنها تنطلق ماكينة التكفير لتنتج لنا ضاربي الرقاب ومفجري الأحزمة الناسفة. لعل هذا التفسير يستطيع أن يجيب على سؤال لماذا يكثر المهندسون في صفوف الحركات المتطرفة، فالمهندس المعتاد على المعادلات أحادية الحل، والقوانين الفيزيائية الثابتة، والزوايا الحادة والقياسات المتناهية الدقة، لا يستطيع أن يتكيف مع التفريعات والتأويلات الكثيرة للمسألة الواحدة في القضايا الدينية، وبالتالي تسيطر على اختياراته فيها تلك العقلية الهندسية الحاسمة، والتي لا تترك مجالاً للاختلاف. وتبرز عنده ذهنية إما أبيض وإما أسود، ولا مجال لوجود ألوان أخرى بينها. فالمسألة الدينية وفق المنطق الهندسي لا تقبل إلا أن تكون إلا حراماً أو حلالاً، إسلاماً أو كفراً، ولا مجال لتلك الاستثناءات والاعتبارات التي اجتهد علماء الإسلام قرونا في تقريرها واستنباطها.