تفكيك مقولتي “الجهاد” و”القتل”

من قسم افتراضي, المقالات. منذُسنة واحدة.2019-09-04T11:50:47+03:0012:00 صباحًا الثلاثاء 25 أكتوبر 2016 م / _25 _أكتوبر _2016 ه‍|

المصطلحات كائنات، تحيى في النص الذي توجد فيه، فإذا أراد المرء التعامل مع مصطلح معين، فإن ذلك يقتضي دراسته كما يُدرس الكائن في كل حالاته، نشأته، نماؤه، كيف يتحرك انفراداً؟ وكيف يتحرك اجتماعا؟ ما هي علاقاته؟ وما هي ضمائمه؟ وما هي مشتقاته؟؛ أي، حصر جميع حالات حراك هذا المصطلح في مجاله، قبل أن يصبح المرء قادرا على الحديث عنه بالدقة المطلوبة.

لا بد من التتبع في كل الحالات، فتصبح عارفا بأنواع الاستجابة التي يستجيبها هذا الكائن، حتى إذا وضعت دليلا تعريفيا عنه سيكون قد استجمع من شروط الدقة والضبط ما يجعل الحكم سليما.

من هنا فالجهاد في تجلياته المختلفة يكون بحسب السياقات التي يوجد فيها، فلا يمكنك أن تتحدث عن الجهاد حديثا مستغرقا وجامعا؛ لأن الجهاد مفهوم يأخذ تمظهراته، وتصريفاته بحسب السياق الذي يوجد فيه، ولئن كان الجامع بين هذه الحالات كلها التي يرد فيها مفهوم الجهاد هو المجاهدة، وحمل النفس على ما تكره، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(البقرة:216)

وتعد مؤسسة الإمامة، المؤسسة الوحيدة القادرة على تحديد وقت هذا القتال الذي كتب، وإلا فالجهاد جهاد نفس قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا. وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)؛ فالجهاد جهاد النفس، لتنوير العقل والوجدان، وضبط الجوارح، هذا هو مفهوم الجهاد بشكل كلي.

كذلك مفهوم القتال (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (البقرة:191) فإذن المصطلح ملفوف، من أجل حماية الأبرياء وحماية النفس، وأيضا كانوا يمنعون وصول كلمات الهداية للناس في المصفوفة القديمة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123)؛ وقال سبحانه: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:23)، لأنهم منعوا الجزية التي كانت تدفع بها نفقات المرابطين، ليقوموا بعملية الضغط على الحكام الذين منعوا دخول الدعاة.

وليست الجزية في أن يدخلوا إلى بيوت المال، بل من أجل الإنفاق على هؤلاء الذين جاءوا مرابطين من أجل أن تسمح للدعاة بعد ذلك ينصرف هؤلاء. هذا في المصفوفة الحديثة. أما المصفوفة الحديثة لفم يبق داع لذلك، ولم تبق حاجة إليه، إذ إن هناك معاهدات، وهناك حرية في التعبير، في المساجد التي ترفع في كل قارات العالم، مما يدل أن هناك فتحا لمجالات لم تكن معهودة من قبل في المصفوفة السابقة.

لقد جرى تحويلُ هذين المفهومين الجليلين في الرؤية القرآنية إلى أداة قتل في أيدي مجموعاتٍ متطرفة، ومتعصبة، وهو تحويل لم يقتصر فقط على القتال والجهاد، بل تناول سائر المفاهيم الكبرى في الإسلام، مثل الدين، والشريعة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ودار الإسلام، ودار الحرب، والهجرة، والنصرة، والدولة ووظائفها، والأمة، والمومنين، والمسلمين، وعلائق الأمة بالدين، ومفهوم الوعد الإلاهي، ومفهوم الحاكمية، ومفهوم التمكين، ومفهوم الوطن، وغيرها من المفاهيم القرآنية.

من هنا فإن الحديث عن القتال والجهاد، أو غيرها من المفاهيم القرآنية دون مراعاة كل هذه الحيثيات لا شك سيفضي إلى فهوم سقينة، ومريضة، ومبتسرة، وجزئية.

مقتضيات فرملة هذه الدينامية المدمّرة:

يحق للمرء أن يتساءل بعد كل هذه الخلاصات، السؤال الآتي: هل إلى خروج من سبيل؟

لا شك أن أول مقتضى من مقتضيات فرملة هذه الدينامية المدمّرة، هو مقتضى الفهم القائم على تفكيك الوقائع وتشبيك متفرقها، وتحليل الخطابات وفرز أنماطها، وجمع المعطيات وتصنيف أنواعها لمحاولة الخروج ببعض مقترحات الحلول في وعي بتطلبات السياق المحلي والإقليمي والجهوي والكوني.

ويمكننا بهذا الصدد، تمييز ثلاث أوراش كبرى:

أـ ورش اجتماعي تحصيني:

وينطلق من استحضار كافة القضايا المجتمعية الحارقة، من معاناة أهل المعاناة وبلورة سبل التضامن لتجاوزها، وعضة الفقر والعوز ومحاربتها، ومكافحة كافة الأمراض وأضرب الإدمانات، وحماية المهجّرين والمقتلعين من أوطانهم، وترشيد المؤسسات العاملة في هذه المجالات، وتعزيز قدرات أهلها، ثم بلورة مشاريع تنموية حضارية راشدة تستقطب أذرع وطاقات الشباب، مع السعي إلى تمكينهم عبر التعليم الفاعل، والإعلام الباني، ومؤسسات المجتمع المدني والتنمية البشرية النابضة، مما يقتضي تكوين الكفاءات وبناء المؤسسات القادرة على مباشرة كل هذه المشاريع برشادة وتمكن.

ب ـ ورش مضموني:

تتم فيه بلورة المضامين الأصيلة المتزنة والوسطية المعتدلة، ونقش استراتيجيات تقريب فحواها من عموم أهل المنطقة، لتحصينهم من أضرب الاختراقات المختلفة، ولكون هذا الورش هو العماد، فلابد فيه من بعض تفصيل.

يُسَجَّلُ اليوم، أن أنماط التنشئة المرتبطة عضويا بالأبعاد الرقمية والفضائية الحديثة، قد أقرت في مجتمعاتنا سلالم جديدة من القيم، والمعايير والأخلاق، والسلوكات، والتي أسهمت جميعها في بناء شخصية إنساننا على شاكلة غير مسبوقة، ووفق مضامين لا تنتمي إلى المنطقة، ولا إلى مرجعياتها، وبفنّية عالية تعطيها جاذبية كبيرة تعزّ مقاومتها. فالإحصاءات تثبت أن الشاب في المنطقة لا يبلغ الثامنة عشرة من عمره إلا وقد رأى أربعين ألف حالة قتل – حدّا أدنى – سواء على شاشة التلفيزيون، أو شاشة النينتاندو، أو الكمبيوتر، ومائة ألف حالة عنف وعدوان –حدّا أدنى- وإذا كان شبابنا في هذين الإحصاءين يلتقي مع شباب العالم، فإنه يختلف عنه بكونه لا يبلغ الثامنة عشرة، إلا وقد سمع عبر الأخبار، أو في مختلف أوساط وجوده العائلية وغيرها، عن عشرات المئات من حالات القتل والعدوان التي يمسّه بعضها بشكل مباشر، مما يقتضي لزاما، لمواكبة، واستيعاب، وتأطير كل ذلك، مراجعة البعد الإعلامي، وتشجيع إنتاج برامج تثقيف وتسلية بديلة، ومنتجات كرتون محلّية مربّية وحاملة لقيم الدفع والإيجابية، وكذا تشجيع إنتاج الألعاب الإلكترونية البانية، المنافسة لما هو موجود في السوق، ومراجعة مناهج إنتاج التربية وبلورة آلياتها في المنطقة، مراجعة تأخذ بعين الاعتبار خصائص هذه المصفوفة الحياتية الجديدة، وتحدياتها من حيث تكوين المدرسين والمشرفين التربويين، وإعداد المضامين والمناهج والبرامج، واعتماد الآليات والوسائل المناسبة لهذا السياق الراهن.

كما يقتضي ما سلف، إعادة استكشاف الرؤية القرآنية الشاملة للحياة والأحياء، والإنسان والعمران، لكي تتم في إطارها كل العمليات التجديدية المطلوبة، وهو ما يستلزم مراجعة أضرب تكوين وإعداد العلماء في المجال الديني، وكافة المجالات الإنسانية الأخرى، واستكمال حلقات ذلك، من وحدات جامعية فاعلة، ومحاضن بحث يُستكمل فيها التكوين والتأطير، وآليات إدماج عضوي ومنتج لهم في مجتمعاتنا، مع السعي لضمان اكتفائهم واستقلالهم في إطار واجبهم إزاء حماية استقرار، وتماسك، وعزّة أوطانهم.

ويتضمن هذا الورش الخطير الجوانب الآتية:

  1. الجانب التربوي؛
  2. الجانب الإعلامي؛
  3. جانب إنتاج كرتون وألعاب إلكترونية لطفولتنا وطفولة العالم تزرع قيم التعايش وتعزّز السلم؛
  4. تأطير إبداعي وتفاعلي للشباب، يبني قدراتهم ومهاراتهم الحياتية عامة وقدراتهم في مجال التعايش وتعزيز السلم؛
  5. مناهج فاعلة ومبلورة لإعداد العلماء لتمكينهم من الاضطلاع بأدوارهم الخطيرة إزاء مجتمعاتهم.

وهي كلها جوانب تقتضي تكوينا وتشميرا جادّين.

ج –  ورش تقريبي:

لعل من آكد العوامل والأسباب التي حَدَّت من فعالية وجدوى منظوماتنا التربوية في المنطقة، غياب الممارسة التقريبية، أولا على مستوى النظر، وثانيا على مستوى التطبيق والتنزيل والعمل)[1](.

إن التقريب لا يوجد بشكل كاف في مناهجنا وبرامجنا التربوية والإعلامية، وسبب ذلك الأبرز، هو ضعف القدرة التواصلية والتفاعلية – بين المرسل والمتلقي في المجال التربوي–وهو الأمر الذي يتحول معه التقريب، إلى ممارسة لا تتجاوز التبسيط السطحي والقشوري لمعارف محددة، ثُم استهلاكها فاجترارها، وهي ممارسة لا شك تدلف بالتقريب نحو حدود التمييع، وتتأرجح بمضامينه بين التهوين والتعويم، وتحصر مقاصده في جوانب من المدارسة، إن وجدت، دون استحضار الممارسة، مما يستوجب الاستدراك الناجز.

إن التقريب المنهاجي والبنَّاء، إذا لم يتغلغل في الأنساق المعرفية، فلن تكون إلا أنساقا مغلقة لا ينفذ إلى طواياها سوى نخبة من الناس، وإذا أردنا لهذه الأنساق أن تكون مفتوحة، قابلة للتَّفَهُّم، والاستيعاب، والإعمال، وكذا  قابلة للتطوير والنماء في مسلماتها ونتائجها، مستجيبة لتطلّبات الواقع، فلابد من استئناف الممارسة التقريبية بشروطها، في مناهجنا ومنظوماتنا التربوية؛ إبداعا وابتكارا، نظرا وعملا، استعمالا واستكمالا، حالا ومآلا، وسيلة ومقصدا.

* الأستاذ الدكتور أحمد عبادي هو أمين عام الرابطة المحمدية للعلماء في المملكة المغربية


 ([1])   وَجَب هنا استحضار أن المنظومات التربوية اليوم، لم يبق مجال بلورتها وإعمالها، منحصراً داخل جدران «المدرسة»، وإنما اتسع هذا المجال ليعُمَّ كافة أرجاء وقطاعات مجتمعاتنا، التي بات يحتوش أفرادها، الدفقُ المعلوماتي الأثيري، حيثما حلُّوا وارتحلوا.. فقد لَفَّت الشبكة التي تسري فيها بلايين المعطيات والمعلومات كوكبنا.