تواترت الأحاديث النبوية الشريفة والمرويات عن الخلفاء الراشدين حرصهم الشديد عن تجنيب الأبرياء ويلات المعارك التي اضطر الإسلام لخوضها في بداية مسيرته، حفاظاً منهم على براءة الإنسان وحرمة دمه ما لم يقاتل المسلمين ويسعى لأذيتهم اختياراً من نفسه، ولعل وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم”اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سبِيلِ اللّهِ، قاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، اغْزُوا ولا تغُلُّوا، ولا تغْدِرُوا، ولا تمْثُلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ” التي وجهها لجيشه الذي كان يتجه لمؤتة لملاقاة الروم في أول مواجهة عسكرية بين الطرفين، والتي تكررت بكلماتها وحروفها في العديد من الغزوات التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم دفاعاً على حرمة المسلمين وحرمة الدعوة الجديدة. يبدوا أن هذه الوصايا النبوية وغيرها الكثير لم تعد تجد لها مستمعاً ولا مبالياً عند الجماعات الجهادية التي باتت تستحل دماء المسلمين وغير المسلمين الأبرياء منهم وغير الأبرياء دون أي مراعاة لحرمة النفس البشرية التي حرمها الله في كتابه. ولئن بررت النزعة الامبريالية التوسعية لبعض الدول الغربية التوسع في استهداف الأبرياء من أجل تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية فإن إنسانية الإسلام التي تعتبر زوال الكعبة وهدمها أهون عند الله من ازهاق روح بريئة لا تقبل أي مبرر لقتل الأبرياء والمدنيين مهما كان المبرر لذلك.
إن المتتبع لسلسلة الأحداث الإرهابية التي باتت تهز دولنا الإسلامية والكثير من الدول غير المسلمة يكاد يقف على حقيقة واحدة متفق عليها بين كل الملاحظين والفرقاء، هذه الحقيقة أن أغلب الذين يسقطون جراء هذه الأعمال هم من المدنيين الأبرياء الذين لا يملكون حولاً ولا قوة ومن الذين قادهم حظهم العاثر للعبور في المكان الخطأ في لحظة الجنون تلك.
كما أن المتابع لهذه الظاهرة وظاهرة التطرف عموماً سيقف على حقيقة أنه لم تتمكن حركة عنيفة من الحركات عبر التاريخ الإسلامي أو غير الإسلامي من فرض نفسها في الواقع وتحقيق أجنداتها السياسية والفكرية، حيث سرعان تبرد فورة التطرف وأعمال التوحش كما هو الحال مع الخوارج في تاريخنا أو الجماعات المسلحة التي عصفت بأمن عالمنا الإسلامي في السنوات الأخيرة أو الحركات الإرهابية من خارج المنظومة الإسلامية كحركة جيش الرب، والجيش الأحمر الياباني وغيرها من الحركات التي لم تحقق شيئا في أرض الواقع وبقيت الأنظمة التي قامت ضدها بل وزادت هذه الأنظمة قوة باكتسابها مبرراً لوجودها وشرعية لسياساتها التي عادة لا تتماشى مع الصالح العام، والتي قامت ضدها هذه الحركات من الأساس.
في تقريره السنوي لمؤشر الإرهاب العالمي نبه مركز الاقتصاد والسلام العالمي لخطورة الوضع على المدنيين الأبرياء جراء الأعمال الإرهابية التي تعصف بالمدن والتجمعات الإسلامية، ونورد هنا لمحة سريعة عن احصاءاته في الدول الإسلامية الأكثر تضرراً بهذه الظاهرة لسنة 2015 والتي وصل فيها عدد الضحايا الأبرياء من كافة التفجيرات الإرهابية المسجلة نسبة 43% من عدد الضحايا، دون احتساب موظفي الحكومات من غير القطاع الأمني، والشخصيات والمؤسسات الدينية التي تعتبر في مجملها من المدنيين. ويصل مجمل الخسائر بين المدنيين والقطاعات المدنية إلى 71% من عدد الضحايا والخسائر حسب احصاءات سنة 2015.
البداية طبعاً مع العراق الذي استحال مسرحاً لأعمال العنف بعد الاحتلال الامريكي سنة 2003، والذي شهد سنة 2016 احدى أعنف واكثر الهجمات وحشية وفتكاً بالأبرياء الذي كانوا يتناولون سحورهم استعدادا لصوم يوم جديد في رمضان هذه السنة حيث سقط منهم 324 قتيلا ومايزيد على 250 جريحاً لم يتم التعرف على اكثرهم إلا بتحاليل الحمض النووي نظرا لشدة التفجير والوحشية الكبيرة التي استخدمت فيه، والغريب استهداف البراءة هذا تزامن مع استهداف للأبرياء في تركيا في تفجيرات مطار أتاوتورك في 28 يونيو 2016 والذي حصد أغلب ضحاياه أيضا من الأبرياء بلغ عددهم 43 قتيلا و239 جريحاً، وتواكب هذا الحجم الطافي من الدم مع هجوم احتجاز الرهائن في بنغلاديش في 1 يوليو. كل هذه الأحداث لم تسقط من قوات الأمن والجيش الشيء الكثير بل راح ضحيتها أبرياء تصادف وجودهم الخطأ في اللحظة الخطأ في المكان الخطأ.
وبينما تدفع البراءة العراقية فاتورة الجنون يختلف الوضع قليلا في افغانستان عن باقي الدول الإسلامية الاكثر تضرراً بهذه الظاهرة حيث سقط من قوات الشرطي سنة 2015 العدد الأكثر من الضحايا بلغ عددهم 2259 شرطيا في أكثر من 543 هجوماً. وعلى اعتبار أن رجال الشرطة عموماً هم من عامة الشعب واضطروا للانخراط في هذه المهنة بدافع الحاجة لكفالة عوائلهم، فلا فرق بين قتل شرطي أو مدني. أما عن نيجيريا التي احتلت فيها بوكو حرام قائمة أكثرالجماعات الارهابية دموية حيث قتلت أزيد من 15.600 قتيلا منذ 2009 بمعدل 11 قتيلا في كل هجوم من هجماتها، تشير الاحصائيات إلى أن أربع من كل خمس ضحايا من هجمات هذه الحركة الهمجية هم من الأبرياء، مما يجعلها أكثر حركة استهدافاً للمدنيين من بين كل الحركات الإرهابية، فاقت في ذلك حتى وحشية داعش الذي تشير المعدلات أن 50% من ضحاياه في العموم من المدنيين الأبرياء.
ويوضح الرسم التالي لمركز الاقتصاد والسلام نسبة ضحايا العلميات التفجيرية بين المجتمع في أكثر ستة دول مسلمة تضررت بالإرهاب سنة 2015، وهي للأسف الدول الستة التي تحتل أول المراتب الستة في مؤشر الإرهاب العالمي لسنة 2016 وسنة 2016 على التوالي.
أمام هذا العبث بالنفس البشرية البريئة الذي لا يمكن لأي فلسفة عاقلة تبريره فما بالك بدين سماوي يحمل رسالة الرحمة للعالمين، وأمام ضخامة هذه الأرقام المعروضة يبدوا أن كفة القتل والدم التي كانت محصورة عن الجنود البسطاء في حروب الإنسان في القرن العشرين وماقبله وعبّر عنها نابليون بونابرت بمقولته الشهير:” الجنود هم حطب الحروب” قد استحالت في بدايات القرن الواحد والعشرين إلى مقولة: ” البراءة هي حطب الإرهاب والجنون”.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.