إنّ من مقاصد الشريعة الإسلامية تكثير “سواد المسلمين” إذ به تتحقق قوتهم، وتزداد هيبتهم، ويستتب أمنهم، ويبتسم حاضرهم، ويشرق مستقبلهم، ويساهمون في سعادة الإنسانية في ليل الشقاء الذي طال أمده، ولم ينبلج فجره، وهل الحث على إظهار “العبادات الشعائرية” ـ رغم أنّ الأصل إخفاء العبادة لأنه أدعى إلى الإخلاص ـ إلا مظهر من مظاهر تكثير “سواد المسلمين”، ولتحقيق هذا المقصد الأسمى من مقاصد الشريعة الإسلامية جعل الإسلام مفتاح الانضمام إلى “الجامعة الإسلامية” شهادة التوحيد. فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، أصبح عضوا كامل العضوية له ما لهم وعليه ما عليهم، ودونك مصنفات السيرة النبوية التي تحكي قصص إسلام الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فلم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يطلب منهم عند نيتهم الدخول في الإسلام أكثر من إعلان الشهادتين، و”الأدلة الواردة في الكتاب والسنة القولية والفعلية ـ كما قال محمد الطاهر بن عاشور ـ تثبت صفة الإيمان لكل من أيقن بأن الله منفرد بالإلهية وأنّ محمدا رسول الله إلى الناس كافة، فتلك الأدلة بلغت مبلغ التواتر المعنوي المحصل للعلم الضروري بأنّ الإخلال بالواجبات الدينية لا يسلب صفة الإيمان والإسلام عن صاحبه”، ولا يخرج المسلم من “الجامعة الإسلامية” إلا إذا جاء بناقض من نواقض الشهادتين التي يمكن إيجازها في كلمتين وهما: “الكفر البواح” الذي يعني: “قطعية الناقض” إذ لا ينبغي أن يكون الناقض محل أخذ ورد، و”إرادة الناطق” بحيث يكون قد “شرح بالكفر صدرا”، والإسلام الذي يجعل شرط الالتحاق به إعلان شهادة التوحيد لا يرضى للملتحقين به البقاء عند “مستوى الإعلان” وإنما يحثهم على الارتقاء إلى “مستوى التحقق”، وعندها ينتقل المسلم من مستوى “براءة الذمة” إلى مستوى “تحقيق المقصد”.
ومشكلة المشكلات أنّ الذين يحملون “معول التكفير” لا يعلمون أنّ هذا “المعول” ينقض أول ما ينقض “النسيج الاجتماعي”، ويضرب أول ما يضرب “الجامعة الإسلامية”، وعندها يتحول “الجسد الواحد” إلى أشلاء متناثرة دون إعادته إلى سيرته الأولى سنوات ضوئية، مما يوقع الأمة الإسلامية في “نزيف مزمن” يُشغلها بنفسها بدل أن تشتغل بنفسها، فيتآكل عددها، وتهن عدّتها، وتنسى رسالتها، وتتلاشى فاعليتها، مما يؤدي في المحصلة إلى فقدان مبررات وجودها، وأسباب إخراجها للناس، والأمم الحية في هذا العصر تبتكر الآليات لتكثير سوادها، ودعاة التكفير يبتكرون الآليات للذهاب بسواد المسلمين، وعندها يناقضون روح العصر، ويسيرون في “الاتجاه المعاكس” لمقصود الشارع، ويسبحون ضدّ تيار الهدي النبوي، ولا يعني هذا أنّ دعاة التكفير يعوزهم الإخلاص والحماس فربما كانوا أكثر إخلاصا وحماسا من غيرهم، وإنما يعوزهم “الفهم الواعي” للنص القرآني والنبوي و”التنزيل السديد” على الواقعة والواقع، ألا ترى أنّ الأمم الحية في هذا العصر تبحث عمّا يجمعها لتسقيه، وتُهمل ما يفرّقها بتجفيف سواقيه، وتولي وجهها شطر القضايا الجامعة والأهداف المشتركة، وهكذا ترتقي من “تكثير سوادها” إلى “تفعيل سوادها”. ودعاة التكفير ملأ القصور عقولهم والغرور قلوبهم فأزهقوا “الجامعة الإسلامية”، وتشظت تشظيا أرداها إلى درك الهوان وجعل دينها في قفص الاتهام، فالقضية الجامعة عندهم سوق الناس إلى “مقصلة التكفير”، والهدف المشترك لديهم الولوغ في دمائهم وأعراضهم وأموالهم، فهل هذا هو سبيل عمارة العالم الدنيوي والعالم الأخروي؟
والحقّ أن الأمم الحيّة تضع من البرامج ما يمكّنها من الاستفادة من كفاءات أبنائها، وتطور من الآليات ما يجعلها توظف خبرات رجالها، ولا تكتفي بذلك بل تضع من المغريات ما يجعل حتى الكفاءات من غير أبنائها يلتحقون بها، وتنشئ من الحوافز ما يفتح الباب للخبرات من غير رجالها إلى الهرولة إليها، ودعاة التكفير يجرفون الكثير من الكفاءات، والعديد من الخبرات، بطردهم من “الجامعة الإسلامية”، وسبيل ذلك المسارعة إلى تكفيرهم، فيفوّتون على الأمة الإسلامية فرصة الاستفادة منهم، والانتفاع بهم، والخطورة كلّ الخطورة أن يتلقف الآخر هذه اللحظة الحرجة ويوقع بهذه الكفاءات في شباكه، ويرمي بهذه الخبرات إلى فخاخه، ويحولها إلى “قطع غيار” جاهزة لاستعمالها في “محركه الحضاري”، وبهذا “القصور الفكري” يساهم دعاة التكفير في إضاعة الفرص وتفويت السانحات على ساعة “الشهود الحضاري”، أليس من الأجدى أن نحافظ على هذه الكفاءات، وأن نصون هذه الخبرات، وعندها نعزز بها جدار المجتمع، ونحصن بها بنيان الدين، وتؤدي الأمة من خلال هذه الكفاءات والخبرات دورها ورسالتها في العالمين، ألا ترى أنّ كتب التّراجم مشحونة بالحديث عن شريحة من الناس دخلت في دين الله تعالى، ولكن غلبتها النفس الأمارة بالسوء فظلت عاكفة على شيء من الموبقات، ولها من الرّصيد السياسي والاجتماعي والعسكري … ما يؤهلها لخدمة الدين ونفع المجتمع، فلو رفض الإسلام الاعتراف بها، وأخرجها من “حظيرة الإيمان”، لخسر خدماتها الجليلة، ومنافعها العديدة، ومواقفها البطولية، وأصبحت حربا عليه سلما على أعدائه، ففلسفة الإسلام تقوم على إبقاء هذه الشريحة من الناس ضمن دائرة “الجامعة الإسلامية” مادامت حاصلة على “مستوى الإعلان”، ويسعى إلى أن يتألفها بشتى الوسائل والطرق، حتّى تمتلئ أفئدتهم إيمانا فينساب على جوارحهم إذعانا، فهذا الدين الذي يتألف الكفار والمنافقين أملا في إيمانهم، فإن لم يكن فعلى الأقل تحييدهم، كيف لا يتألف من خطا الخطوة الأولى في طريق الإيمان، والرغبة تحدوه في كسر قيد الشبهات والشهوات والهجرة إلى ربّ الأرض والسماوات.
والحق أنّ إضاعة الكفاءات وخسارة الخبرات في كلّ مجالات الحياة أكبر طامة من طوام التكفير، وأسوأ أثر من آثار خرم “الجامعة الإسلامية”، وهذا الأثر يجب أن تخصص له مساحات بحثية كبيرة، وفضاءات فكرية عديدة، لتبيان خطورته على حاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها، لأنّ حرمان الأمة الإسلامية من كفاءات أبنائها وخبرات رجالها حرمان لها من ركائز النهوض والإقلاع الحضاري، والحكم عليها بالبقاء في أقبية التخلف والدونية والتبعية، ونحن لا ننكر أنّ العبث بـ “الأمن السياسي” وذلك بالخروج على أنظمة الحكم، وربما الدخول معها في “مواجهة استنزافية” تأكل الأخضر واليابس، والمساس بـ “الأمن الاجتماعي” وذلك بإزهاق النفوس، واغتصاب الأعراض، ونهب الأموال، مما يحول الأمة الإسلامية “كرة نار” تلتهم نفسها وتحرق غيرها، وقد أرادها الله “شعلة نور” تضئ على نفسها وتشع على غيرها، نحن لا ننكر أنّ كلّ ذلك من الحصاد المر لأشواك التكفير المشؤومة، التي تذهب بطمأنينة الفرد واستقرار المجتمع، مما يؤدي إلى غياب الأمن في كلّ المناحي، وتفشّي القلاقل في كلّ الزوايا، وبدل أن تشتغل الأمة بجلب المصالح وذلك بوضع المخططات التنموية والمشروعات النهضوية التي تخرجها من نفق الهزائم والتخلف والانحطاط المزمن، تُشغل بدرء المفاسد، وتضيع جهودها، وترهن مقدّراتها، وتفنى أعمارها، وتغفل رسالتها، في القضاء على “سرطان التكفير” الذي ينتقل من عضو إلى عضو ولا يعرف إلى الانحسار سبيلا، ولكن يبدو أنّ “الناحية المآلية” تقول إنّ هذا الجانب القاتم أقل ضررا ـ وإن كان الضرر ملة واحدة ـ من إضاعة الأمة لكفاءاتها، وخسارة خبراتها، وتهجير أدمغتها، فتذهب الأمة، ويذهب دينها، وتطردها سنن التاريخ من حلبة التاريخ.
فـ “التكفير” يهوي بالمجتمع الإسلامي في منزلق خطير إذ يؤدي إلى “صناعة الأعداء”، فهذا الذي حكمت عليه بالطرد من “الجامعة الإسلامية”، لا مراء في أنك صيّرته عدوا ولا ينتظر منه إلا أن يقابل العداوة بمثلها، وعندها يفتح المجتمع الإسلامي على نفسه باب الفتنة بتفشي العداوة وتسلل البغضاء بين أفراده الذين يفترض أن يكونوا كـ “الجسد الواحد”، وبدل أن تقوم الأمة الإسلامية بتحييد أعدائها ولم لا استمالتهم وإذ بها تخسر أبناءها وتصيرهم أعداء ينخرون جسمها وينهشون نسيجها، فهل كتب على “أمة الرحمة” أن لا تحسن إلا فن “صناعة الأعداء”.
————————————————————————————————————————————————————————-
الأستاذ: أحمد رشيق بكيني رئيس المركز الثقافي الإسلامي سطيف ـ الجزائر