لعله لم تصب الأمة الإسلامية في تاريخها الثقافي بمثل ما أصيبت بآفة التكفير التي عصفت بتاريخ الأمة الثقافي في زمن الفرق والجماعات التي ظهرت عبر تاريخها، حيث احتكرت كل فرقة لنفسها حق تمثيل النسخة الحقة من الإسلام نازعة كل حق لغيرها فيه لأسباب عديدة، أكثرها حيك بدافع السياسة التي ما دخلت شيئاً إلا أفسدته. ومع انتشار هذه الآفة في القرون الأولى للإسلام إلا أنها لم تخرج عن إطارها الجدلي الفكري حيث لم تنزّل على أرض الواقع ويُعمل بمقتضاها باستثناء حالة الخوارج التي فعّلت رأيها في التكفير وجسدته في أرض الواقع عبر سيل من الثروات الدامية التي أزهقت أرواح آلاف الأبرياء المسلمين دون أن تقضّ شيئاً من عضد الأنظمة السياسية التي كانت تستهدفها هذه الثورات. بعيداً عن تجربة الخوارج هذه لم تجرأ أي فرقة ثانية أن تسلّ سيوف أتباعها في وجه فرقة ثانية وإن كانت ترميها بالتكفير ليل نهار. إلا أن الوضع اختلف في عصرنا الحديث الذي يفترض فيها ظهور مزيد من النضوج الحضاري والفكري مقارنة بما سبقه من عصور، وبالتالي انحصاراً للأفكار الحصرية والاقصائية، لكن على العكس من ذلك، بات تنزيل أحكام التكفير على الواقع والمسارعة إلى حصد أرواح الأبرياء أمراً في غاية البساطة عند الجماعات المتطرفة ودعاتها الذين لا يفهمون من روح الإسلام ومقاصده شيئاً، ولا يحسنون فك وفهم النصوص الدينية وأقوال العلماء فيها، ويتلذذون بتضيق دائرة الإسلام واخراج الناس منها بسهولة وكأنهم وكلاء لله على هذا الدين.
إن ملاحظات كافة المتأملين والناقدين لأدبيات وكتابات هؤلاء يجمعون على بساطتها وسذاجتها وتفككها وأحكامها السطحية الجاهزة التي لا تحتاج لكثير منطق، وعميق فهم لفهمها وتحليلها، وهو ما يسرّع من انتشارها في أوساط الشباب حديثي التدين و قليلي الدراية الدينية وهم الشريحة الكبرى في التنظيمات الإرهابية في تعصف بأمن المسلمين في كل مكان.
ومن الملاحظ على أغلب هذه الكتابات؛ سطحية وسذاجة فهمها لمنهج أهل السنة في مسألة التكفير وقلة فهمهم لمقاصد الشرع وروحه العامة، بل ونقص فهمهم لأقوال وتأصيلات العلماء في هذه المسألة التي ينبني عليها عماد الفكر المتطرف من أساسه. يخفق الكثير من دعاة وأتباع هذه التيارات في التفريق بين ما تعارف عليه علماء الإسلام الكبار في التفريق بين تكفير المطلق وتكفير المعين، وهي مسألة دقيقة وخطيرة جداً يبرر الإخفاق في فهمها تواجد هذه الجماعات بيننا ونشوة دعاتها بالتكفير والتفسيق والوعيد بالنار في كل مجلس ومناسبة.
يفرق أهل السنة بين تكفير المطلق وتكفير المعين، فقوله تعالى” وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ]المائدة:44 [يحمل حكماً بالتكفير المطلق أو التكفير على العموم على كل من لم يحكم بما أنزل الله، لكنه لا يحمل حكماً بالكفر على شخص بعينه في حالة شخص مخصوص لم يحكم بما أنزل الله، نظرا للشروط الكثيرة التي استنبطها علماء أهل السنة من نصوص القرآن والسنة والتي تنفي خروج المسلم من الإسلام بمعصية ارتكبها. فحتى يتحقق التكفير على المعين في هذه الحالة لابد له من توفر شروط، وانتفاء موانع، ولا يكون جاهلاً ولا متأولاً ولا مكرهاً… وغيرها من القيود التي ناقشها العلماء بشكل مفصل جداً يوضح حرصهم على عدم إخراج الناس من دين الله لأي سبب وتضييقهم لدائرة الكفر، ويعكس فوق ذلك حرص الإسلام على تكثير سواد المسلمين وترصيص صفوفهم وعذر المفرّط منهم ومنحه فرص كثيرة للتوبة والنجاة. يقول ابن تيميه في هذا المضمار: (فقد يكون الفعل أو المقالة كفراً، ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة، أو فعل ذلك الفعل، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، أو من فعل ذلك، فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بأنه من أهل النار، لجواز أن لا يلحقه، لفوات شرط أو لثبوت مانع) و يقول: (إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، يبين هذا أن الأمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه، وقد وضّح الإمام الطحاوي هذا النقطة في قوله: ( لأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله)
فالذي نطقت النصوص الشرعية بكفره في صيغة العموم والإطلاق قد يكون صاحب عذر كأن لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق في المسألة، وقد تكون هذه النصوص قد وصلته لكنها لم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، أو فهمها باجتهاده بشكل يخالف الوجه الصحيح لها، وكل هذا يقع تحت دائرة الاجتهاد التي يغفر الله خطأها ويجزي صاحبه أجراً إن أخطأ وأجرين إن أصاب، ولم يكفر إلا من جحد مدركاً لجحوده مصراً على رأيه بعد أن تبينت له الحجة ودمغه الدليل، أو مستهزءاً بحكم من أحكام الله مستصغراً لحكمة الشريعة. وفق هذه الآلية فهم صحابة رسول الله والتابعون وعلماء الإسلام لذا أمسكوا عن تكفير العصاة والمخالفين فهماً منهم لمقاصد الدين، بل وأمسكوا حتى عن تكفير الخوارج الذين كفروا المسلمين حيث أجاب على رضي الله عنهم حين سئل عنهم: أكفار هم؟؟! فأجاب: ” هم من الكفر فروا” ولم يقاتلهم علي رضي الله عنه لكفرهم بل لبغيهم وافسادهم في الأرض. وهو الأمر نفسه الذي قال به أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وتبناه علماء الإسلام المعاصرون كهيئة كبار العلماء بالسعودية والأزهر الشريف الذين اتفقوا عن عدم خروج الدواعش من الدين بالرغم من سفكهم لدماء المسلمين، مع الافتاء بوجوب قتالهم وكف أذاهم عن المسلمين.
ويتوافق رأي أهل السنة والجامعة في التكفير مع رأيهم في الوعيد لمن ارتكب الكبائر حيث يرون عموم هذه الأحكام وعدم إنفاذها على الأعيان في مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (النساء: 10) وقوله صلى الله عليه وسلم: “لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه” فهذه الأدلة الأخذ بها و القول بموجبها واجب على العموم والإطلاق من غير أن يعين شخصاً من الأشخاص مرتكب لإحدى هذه الذنوب فيلعن أو يقال عنه مستحق للنار. نظراً لوقوع الوعيد على العموم، ولإمكان توبته، أو لكثرة حسناته الأخرى التي تمحوا ذنبه هذا، أو قيامه بأعمال مخلصة جليلة مكفرة للذنوب. ومن حرص و تشدد علماء أهل السنة على عدم التسرع في إطلاق الوعيد على العصاة؛ اعتبار ابن تيمية القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد المرتكبين للذنب بأعيانهم، أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب.
يتضح من هذا الايجاز الخطوط العامة لآلية التكفير عند أهل السنة، وهي ما تغيب عنه فهوم دعاة ومنظري الجماعات المتطرفة إما جهلاً، وإما تجاهلاً تغذيه التشوهات النفسية التي يعانيها هؤلاء.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.