إنّ القاسم المشترك لـدعاة التكفير ـ رغم تناحرهم فيما بينهم ـ هو “الاستئصالية”، فمذهبهم صحيح لا يعرف الخطأ ومذهب مخالفيهم خطأ لا يعرف الصحة، ومن سلك سبيلهم سلك سبيل الإسلام ومن خالف سبيلهم خالف سبيل الإسلام، وإذا كان “التسامح” مع المخالفين في الدين من خصائص هذا الدين .. فهل يُعقل أنْ يقوم الإسلام على “التسامح” مع أتباع الملل الأخرى ويغفل “التسامح” بين مكونات “الجامعة الإسلامية”؟ وهل يُعقل أنْ تصل “النّرجسية الفكرية” بفئة من النّاس فيحتكرون النجاة لأنفسهم ويرمون سواد المسلمين في “قُمامة” الهلكى؟
ولا شك أنّ “الإثارة العلمية” وجه من وجوه تغييب الموضوعية، يلفظها الدين، ويرفضها العقل، ولهذا فإنّ الواجب على المرء أنْ يكون قصده كشف الحقائق، ووضع النقاط على الحروف، والدّارس للفرق الإسلامية التي ظهرت على مسرح الساحة العقائدية يعلم يقينا أنّ من أُولى الفرق الإسلامية ظهورا الخوارج الذين خرجوا من رحم معسكر الإمام علي بعد حادثة التحكيم، ولا تهمنا المسألة من جانبها التاريخي، وإنّما الذي يهمنا هو الخصائص التي اختص بها الخوارج كفرقة من الفرق الإسلامية ومدى استصحاب دعاة التكفير لهذه الخصائص.
وفي هذا الصدد يقول محمد أبو زهرة: “وهذه الفرقة (أي: الخوارج) من أشد الفرق الإسلامية دفاعا عن مذهبها، وحماسة لأرائها، وأشد الفرق تدينا في جملتها، وأشدها تهورا واندفاعا، وهم في اندفاعهم وتهورهم مستمسكون بألفاظ قد أخذوا بظواهرها وظنوا هذه الظواهر دينا لا يحيد عنه مؤمن … ولم تكن الحماسة والتمسك بظواهر الألفاظ وحدها ما امتاز به الخوارج، بل هناك صفات أُخرى منها: حبّ الفداء، والرغبة في الموت، والاستهداف للمخاطر من غير داع قوي يدفع إلى ذلك … وإنّه من الحقّ أنّ الإخلاص كان سمة الكثيرين منهم ولكنه إخلاص يصاحبه الانحياز إلى ناحية معيّنة قد استولت على مداركهم … وقد كان التعصب يسود جدلهم فهم لا يُسلّمون لخصومهم ولا يقتنعون بفكرة مهما تكن قريبة من الحقّ، أو واضحة الصواب، بل لا تزيدهم قوة الحجة عند خصومهم إلاّ إمعانا في اعتقادهم وبحثا عمّا يؤيده، والسبب في ذلك استيلاء أفكارهم على نفوسهم وتغلغل مذاهبهم في أعماق قلوبهم، واستيلاؤها على كلّ مواضع تفكيرهم وطرق إدراكهم، وكان فيهم مع ذلك لدد وشدّة في الخصومة تمثّل نزعتهم البدوية. وقد كان ذلك من أسباب تحيّزهم إلى جانب فكرة واحدة والنظر إليها من هذا الجانب وحده غير معتبرين سواه … وكانوا كما أشرنا يتمسّكون بظواهر القرآن، ولا يتجاوزون ذلك الظاهر إلى المرمى والمقصد والموضوع، وما يظهر لهم بادئ الرأي يقفون عنده ولا يحيدون عنه قيد أنملة … وكانوا مع فصاحتهم يطلبون علم الكتاب والسنة، وفقه الحديث وآثار العرب … فهم كانوا يُحاولون أنْ يعرفوا علم القرآن والسنة من أهل الخبرة ولكن لأنّ أنظارهم جانبية لم ينتفعوا به انتفاعا كاملا”.
والحقّ أنّ هذا النص يُبيّن بجلاء خصائص الخوارج كما تصورها كتب الفرق الإسلامية، وإذا كانت الحقيقة لا تَعْبُر إلاّ على جسر الموضوعية فهيا بنا إلى إسقاط خصائص الخوارج على دعاة التكفير، ومن نافلة القول أنّ هذا العمل عمل “تقني” لا أثر للتحكم فيه، لنرى مدى قرب أو بعد دعاة التكفير من هذه الخصائص.
فـدعاة التكفير “من أشدّ النّاس دفاعا عن مذهبهم وحماسة لأرائهم”، فهم يعتبرون أنّ المذهب الحقّ مذهبهم وأنّ مذاهب مخالفيهم باطلة، ولهذا لا يتورعون عن رمي مُخالفيهم بسهام الضلال ونبال الكفر، ولو كانوا من العلماء المشهود لهم، وهم بذلك يستعملون “الوصاية الفكرية” على الناس لأنهم لم يبلغوا مرحلة “النضج الفكري” فيسعون إلى رميهم بالسفه والقصور الذي هم منه براء في نظرهم، وهم بهذا الصنيع يؤكدون أنّ الله ملّكهم حقّ تجميد العضوية في الإسلام.
ودعاة التكفير “من أشدّ النّاس تدينا في الجملة”، فتجدهم يحرصون حرصا منقطع النظير على تحقيق رسم (مظاهر) الشريعة وكأنّه المقصد من وراء العبادات والتكاليف، ولهذا تراهم يُسرفون في رمي مخالفيهم بترك وإهمال السنن النبوية، لأنهم لم يُحققوا رسم الشريعة مثلهم وإنّما حقّقوا مقصدها الذي هو لبّها ومعناها، ألم يصرخ عبد الله بن مسعود في الناس لما رأى سلم الأولويات بدأ في الاختلال قائلا: “أَنْتُمْ أَكْثَرُ صِيَامًا وَأَكْثَرُ صَلاَةً وَأَكْثَرُ جِهَادًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ، قَالُوا: لِمَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كَانُوا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا وَأَرْغَبَ فِي الآخِرَةِ”.
ودعاة التكفير “من أشدّ النّاس تهورا واندفاعا”، لأنّ “النرجسية الفكرية” خيّلت إليهم أنّهم هم “سفينة النجاة” فمن ركبها فهو من الناجين ومن تخلف عنها كان من الهالكين، ولهذا حكموا على مخالفيهم بالكفر وقاموا برميهم في النار، والمشكلة كل المشكلة في اعتقادهم أنهم هم الممثل الشرعي والوحيد للإسلام مما جعلهم يتهوّرون ويندفعون، ولو قدّر للغشاوة أن ترفع عن أبصارهم لتبيّن لهم أنّ الإسلام براء منهم.
ودعاة التكفير “من أشدّ النّاس رغبة في الاستهداف للمخاطر من غير داع قوي يدفع إلى ذلك”، وتلك هي آفة الذين يتوهمون أنّ ما يُقدمون عليه هو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، والحقيقة أنّ “وقعة الحديبية” درس عملي لكلّ الذين يسارعون برمي أنفسهم في أتون المخاطر من غير داع قوي يدفع إلى ذلك، ولو قدّر لدعاة التكفير شهود “صلح الحديبية” لأشهروا سيوفهم في وجه رسول الله غداة توقيعها، ولا أدرى هل حملة هذا الشذوذ بإمكانهم بناء مجتمع وإقامة دولة، وعلى كلّ حال فالنموذج الذي يبشرون به نراه رأي العين؛ “صحّروا” المجتمع فعاد إلى الوراء قرونا، وفتّتوا الدولة دون إعادتها إلى سيرتها الأولى أحقابا.
ودعاة التكفير “من أشدّ النّاس إخلاصا وإنْ كان هذا الإخلاص يُصاحبه الانحياز إلى ناحية معيّنة”، فالمصيبة كلّ المصيبة عندما يعتقد هؤلاء أنّهم أصابوا الحقّ من كلّ وجه من وجوهه وأنّ مخالفيهم جانبوا الحقّ من كلّ وجه من وجوهه، فالمعركة والحال هذه لا تعرف إلى النهاية سبيلا، لأنّ رائدها الإخلاص المتحيّز، والإخلاص المتحيز كشكول من التعصب العنيف وضيق الأفق الشديد، ومن عرف دعاة التكفير عرف أنّ آية إخلاصهم أنّهم متدينون في الجملة، وأنّ آية تحيّزهم أنّ الحرب التي يشنّونها على أهل القرآن لا تقارن بتاتا بالحرب التي يشنونها على أهل الأوثان.
ودعاة التكفير “من أشدّ النّاس الذين يسود التعصب جدلهم فتراهم لا يُسلّمون لمخالفيهم ولا يقتنعون بفكرة مهما تكن واضحة الصواب، بل لا تزيدهم قوة الحجة عند مخالفيهم إلاّ إمعانا في أرائهم وبحثا عمّا يُؤيدها والسبب في ذلك استيلاء أفكارهم على نفوسهم وتغلغل مذاهبهم في أعماق قلوبهم واستيلاؤها على كلّ مواضع تفكيرهم وطرق إدراكهم”، فهم النّاطقون الرسميون عن الله، فإما أنْ تكون تبعا لهم وإما أنْ تكون من الخاسرين.
ودعاة التكفير “من أشدّ النّاس الذين يسعون حثيثا إلى معرفة علم القرآن والسنة ولكن تحيّزهم إلى ناحية معيّنة حجبهم عن الانتفاع الكامل”، فكان انتفاعهم انتفاعا ناقصا مشوها، نسف وسطية الإسلام التي هي روحه ولبّه، وذهب بسماحة هذا الدين التي هي أريجه وعطره، فهم يقتاتون على القشور بدل الاقتيات على اللباب، ويُديرون المعارك الوهمية بدل المعارك الحقيقية، وهكذا يغدو علم القرآن والسنة آكلا للأوقات، ممزقا للجماعات
وإذا سطعت هذه الحقائق بعد هذه المقارنة تبيّن لنا مدى قرب دعاة التكفير من الخوارج، وظهر بما لا يدع أيّ مجال للمراء أنّ هناك أكثر من تطابق بين الخوارج ودعاة التكفير .. إنّهما خرجا من رحم واحد، وإن كان من فرق فهو أنّ الخوارج كان وبالهم قاصرا على أمتهم، وأنّ خبالهم سقوا به أتباع ملتهم، وأما دعاة التكفير فإنّ وبالهم لم يقتصر على أمتهم بل تعدّى إلى العالمين، وأنّ خبالهم لم يسقوا به أتباع ملتهم بل أغرقوا به الدنيا والدين.
أحمد رشيق بكيني رئيس المركز الثقافي الإسلامي لولاية سطيف ـ الجزائر