( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (التوبة: 5)
لعله لا يوجد في القرآن الكريم آية اتكأ عليها داعش والجماعات التكفيرية في تبرير دمويتهم مثل آية السيف التي كثر فيها الخلاف بين المسلمين، و باتت السند الأكبر لهؤلاء في تبرير مفهوم الحرب الشاملة التي يرون أنها الرسالة الوحيدة التي جاء بها الإسلام عبر الفريضة الغائبة (الجهاد) حسب توصيف منظرهم الأول محمد عبد السلام فرج. فالمطلع على أدبيات هذه الحركات الجهادية يخال أن الإسلام جاء يعلنها حرباً على الكل حتى يسود على العالم بالقوة وتخضع له شعوب العالم دون استثناء، ويخال أن القرآن الكريم كله جاء من أجل تكريس ركيزة واحدة وهي الجهاد في سبيل الله.
وحين يتعرض هؤلاء للسيل العارم من آيات القرآن الكريم التي تحض على الموادعة والسلم والرأفة والموعظى الحسنة وحرية الدين وحرمة الدماء، يشطبون عليها بسهولة غريبة مستخدمين مفهوم النسخ الذي يرون عبره أن آية السيف نسخت 124 آية في 52 سورة في القرآن الكريم كلها كرست معاني التآخي والموعظة الحسنة والتعامل بالحسنى، وغيرها من المعاني التي جسدتها السيرة النبوية وسير الخلفاء الراشدين المهديين. وقد وصل هوس هؤلاء وشغفهم بالغرائب فقالوا: إنها بعد أن نسخت هذه الآية كل هذا القدر من القرآن نسخ آخرها أولها، في إصرار منهم على حدية معنى الآية، ووجوب خدمة مفهومها لأغراضهم وأمراضهم.
ونرى من الجيد إيراد بعض الآيات التي يرى هؤلاء ان آية السيف نسختها
قوله تعالى: ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( البقرة:256)
قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ( الكهف:29)
قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( الأنفال )
قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة: 190)
قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة: 193)
قوله تعالى: ِ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (النساء90 )
قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (الانفال 61)
قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (الزخرف)
قوله تعالى: ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”
قوله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الممتحنة: 8-9 )
قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (الغاشية: 22)
قوله تعالى: ” لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ( الكافرون: 6)
يتضح جلياً من سرد الآيات السابقة أنه يستحيل أن تنسخ آية واحدة كل هذا الكم من الآيات التي تعبر عن روح الإسلام ورسالته الأولى وهي الرحمة – هذا إن سلمنا بوقوع النسخ في القرآن الكريم من أساسه-، على أن القائلين بهذا الرأي نسوا أن يضيفوا لقائمة الآيات المنسوخة بزعمهم قوله تعالى: ” وما أرسالناك إلا رحمة للعالمين” لتكتمل الصورة ويتم الغرض.
من الواضح الجلي أن دعاة هذا الرأي لم يراعو السياق الذي جاءت فيه آية السيف وسورة التوبة بشكل عام، رغم اتفاق أغلب الفقهاء أن سورة التوبة لم تبدأ بالبسملة مراعاة لسياق الآيات التي بدأت بها فالبسملة فيها من الآمان والرحمة ما فيها ولما كانت آيات السورة تبدأ بالبراءة من المشركين والتثريب عليهم لم تبدأ السورة بالبسملة تماشياً مع السياق. لذا وجب عليهم وعلى غيرهم من القائلين بنسخ هذه الآية لباقي آيات الموادعة والسلم؛ الاحتياط بدل الرمي بمقولة النسخ جزافاً، حفظاً لروح الإسلام ورسالته خصوصاً في هذا الزمن الذي هان فيه المسلمون وانكسرت فيه شوكتهم، وباتوا وليمة على قصاع الكل. لقد نزلت آيات سورة التوبة في العام التاسع من الهجرة بعد فتح مكة والتي فتحت وباتت تحت حكم المسلمين في العام الثامن من الهجرة، وسياق الآيات يخاطب مشركي الجزيرة العربية من غير قريش ممن لهم عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و ببراءة الله ورسوله منهم ومن عهودهم وهي حالة واقعة بعينها لعهود قائمة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين وقد يقول البعض كيف ينزل القرءان لمعالجة حالة قائمة دون غيرها والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟ إذ أن الآيات الأولى في سورة التوبة والتي وردت فيها آية السيف وضحت وبشكل غير خفي أن المشركين المعنيين في الآيات ينقسمون إلى فريقين هما:
فريق نقض العهود التي له مع رسول الله فمدة مهادنتهم أربعة أشهر وأنهم لن يعجزوا الله وذلك في قوله تعالى ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)” ووضحت الآية التالية آلية إعلان هذا القرار بأن يكون يوم الحج الأكبر وذلك في قوله تعالى ( وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” (3)
فريق من المشركين لم ينقضوا عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحافظوا عليها فعهدهم إلى مدتهم وذلك في قوله تعالى في الآية التالية: ( إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
و بعد هذا السياق والتسلسل المنطقي تأتي الآية المسماة بأية السيف وهي قوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (5)
وورود هذه الآية في سياقها هذا هو عين المنطق حيث أن الوقت حُدّد لمشركي الجزيرة العربية لتحديد موقفهم من الإسلام بعد أن نقضوا عهدهم معه، وتذكر الآية النتيجة المنطقية لما سيفعله المسلمون بعد انقضاء المدة سواء انقضاء أربعة أشهر آو إكمال العهد إلى مدته مع الذين لم ينقضوا العهد.
على أن الآيات التي تلت آية السيف كانت أكثر وضوحاً في التماشي مع الروح القرآنية القائمة على الموادعة والسماحة وكف اليد، حيث وضّحت وبلا أدنى شك أن الحرب على المشركين ليست مفتوحة وأنها مخصوصة بخصوص مكاني وهو الجزيرة العربية وخصوص عيني وهو المشركين الذي نقضوا العهد، حيث تشير إلى إباحة قبول إجارة المشرك إن طلب حماية رسول الله، وليس هذا فقط، بل توجب الآية على المسلمين حمايته وأن يبلغوه مكان يأمن فيه على نفسه وماله وعرضه قال تعالى بعد آية السيف مباشرة “وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ” فكيف تعلن آية السيف الحرب الشاملة على عموم المشركين بينما تأمر الآية التي تليها بقبول طلب حمايتهم وتأمينهم بل وتوصيلهم إلى حيث يأمنون عن انفسهم وأموالهم وأعراضهم. وإلى هذا المعنى يشير ابن الجوزي في كتابه “نواسخ القرآن” بقوله: ” القائلين به – يقصد القائلين بنسخ آية السيف لكافة آيات الرحمة والسلم- بأنهم لا فهم لهم من ناقلي القرآن، إنما نسخت آية السيف حكماً واحداً هو إتمام العهد لمن عاهدوه من المشركين بالكف عن قتالهم، فنسخت ذلك، وكانت هذه الآية إعلاناً لهم بإلغاء عهدهم، وأنه لا يقبل منهم بعد ذلك إلا الإسلام، وهذا خاص بمشركي جزيرة العرب”، وقد قال جملة من علماء الإسلام بهذا الرأي منهم الطبري والبخاري وغيرهما.
ومن الأمانة الإشارة هنا إلى أن العلماء انقسموا في تفسير هذه الآية إلى ثلاث أقسام
جماعة يرون أن آية السيف قد نسخت ما قبلها من آيات والموادعة والصبر على المشركين والكافرين، وهذا الرأي قال به جملة من العلماء قديما في سياقات تاريخية محددة لذا يعذرون على اختيارهم هذه، علماً أن هذا الرأي لم يعمل به المسلمون مطلقاً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لا الخلفاء الراشدون ولا الأمويون ولا العباسيون ولا غيرهم من قادة المسلمين لاستحالته سياسياً ومنطقيا في زمنهم، فما بالك بزمننا. وهو الرأي الذي اختارته للأسف الجماعات الجهادية والتكفيرية عموماً.
جماعة يرون أن أية السيف تستخدم بحسب أحوال أهل الإسلام أن كان لهم شوكة قوية استخدموا أية السيف وان ضعفوا استخدموا آيات الموادعة وفي هذا الرأي من الغرابة كما في سابقه.
جماعة يرون أن أية السيف ليست بناسخة مطلقا بل هي حالة مخصوصة في زمن معين لأشخاص بعينهم، بل يرى بعضهم أنها هي ذاتها منسوخة بقوله تعالى ( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) وقد قال به جملة من العلماء القدامى وتبناه الكثير من العلماء المعاصرين لتناسبه وتناسقه مع باقي آي القرآن الكريم، وتعبيره عن روح الإسلام الحقة القائمة على بث رسالة العدالة والمحبة والتآخي والاعتراف بالآخر.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.