إنّ الدعوة إلى الله سبيل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وسبيل أتباعه، “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”، فالذين يعرضون عن القيام بفريضة الدعوة إلى الله هم في الحقيقة ـ علموا أم لم يعلموا ـ يعرضون عن سبيل رسول الله، ولهذا نجد أنفسنا أمام مخالفة مركبة: الإعراض عن فريضة الدعوة إلى الله، والإعراض عن سبيل رسول الله، ومصيبة المصائب ليست في الإعراض عن فريضة الدعوة إلى الله فما أكثر الذين يتخلون عن القيام بمسؤولياتهم، وإنما مصيبة المصائب في الصدّ عن سبيل الله فيتحول المرء إلى “مناضل” في “حزب الشيطان”، والمصيبة تهون عندما يصدّ عن سبيل الله الذين يصدون عن سبيل الله، فالذي ينتظر من إبليس أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا يصنف إلا في عداد الحمقى والمجانين، ولكن أن يصدّ عن سبيل الله الذين يدعون إلى الله فذلك الذي يدع الحليم حيران، وأما دعاة التكفير فقد جاؤوا بـ “الخاطئة”، وأربكوا كلّ موازين الاحتمالات، وأخلطوا كلّ أوراق التوقعات، فهم يصدّون عن سبيل الله ويحسبون أنهم يدعون إلى الله، فكانوا حقا من “الأخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”، ولعل هذا هو السرّ الذي جعل الرسول المسدّد كثيرا ما يلهج بهذا الدعاء: “اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه”، فأنْ ترى الدعوة إلى الله دعوة إلى الله، وأنْ ترى الصدّ عن سبيل الله صدّا عن سبيل الله، ليس بالأمر الهيّن البتة، ولهذا كان اللجوء إلى الله تعالى لتنوير الحوالك سبيل الأنبياء والمرسلين.
فدعاة التكفير يصدّون عن سبيل الله، ويتجلّى ذلك في عرضهم لدين الله عرضا ينفّر أمة الدعوة ويشوش على أمة الاستجابة، وقوام هذا العرض هو: النزوع إلى طرف التكلف “قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين”، والغلو “قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم”، والابتعاد عن التوسط والاعتدال “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”، فالتكلف والغلو يسدّ باب الدخول في الإسلام، ويفتح باب الخروج من الإسلام، وهاهم دعاة التكفير يتكشّف عرضهم للإسلام من خلال المناهج الدراسية التي تركوها وراء أدبارهم، وإنّ المرء ليعجب كيف تعرض هذه البضاعة التي روحها التوسط والاعتدال في ثوب الإفراط الغلو، وإنّ العاقل ليدهش كيف تسوق هذه البضاعة التي أساسها السماحة واليسر “أحبّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة” في ثوب القسوة والشدة، ولكن التكلف والغلو ـ بغض النظر عن حسن النوايا أو ضدّها ـ يحركه الطموح إلى السيادة المسلوبة، ويغذيه اليأس من الرّاهن القاتم، فيحسب الأوهام آمالا، ويخيّل إليه أنّ السراب ماء، ومن هنا باتت “المواجهة الفكرية” مع دعاة التكفير فريضة شرعية لإنقاذ الإسلام من التشويه وإنقاذهم من الضياع، وضرورة واقعية لتجفيف كلّ المنابع الفكرية والنفسية … حتى لا نكون من الذين يقطعون ذنب الأفعى ويتركون رأسها، وحتمية حضارية حتى لا نجعل العالم يحارب “فطرة الله التي فطر الناس عليها” ويتوجس خيفة منها، لأنّ انحسار “الفطرة” يعني انتشار ضدّها وفي هذا تهديد وأيّ تهديد لـ “السفينة البشرية”.
ودعاة التكفير يصدّون عن سبيل الله، ويتجلّى ذلك ـ علموا أم لم يعلموا ـ في ترسانة الشبهات التي يلقون حممها هنا وهناك فتأتي على الأخضر واليابس، وكأنّ هذا الدين لم تكفه شبهات الأعداء العادين حتى تُركَم فوقها شبهات الأبناء المارقين، وهكذا بدل أن تشتغل القيادات الفكرية والنخب العلمية بالرد على شبهات الأعداء العادين تضيع الأعمار وتستنزف الجهود في الردّ على شبهات الأبناء المارقين، إذ لا يختلف اثنان على أنّ عرض دعاة التكفير للإسلام إنْ على مستوى الفهم وإنْ على مستوى التنزيل، يُغرق السهل والجبل في “طوفان الشبهات”، فأنّى العثور في خضم الموج على منفذ النجاة؟ مما يجعل عرضهم للإسلام فهما أو تنزيلا يشوه صورة الإسلام تشويها يُذهب بريقها، ويُطفئ نورها، وهذا الأمر يمنح الذين يتربصون بالإسلام الدوائر فرصة وأيّ فرصة للإجهاز على الإسلام وأهله، فيتسللون من منفذ القضاء على التكفير للقضاء على الإسلام، مستغلين غياب الأمة الإسلامية أو تغييبها، ويقيم سدا منيعا بين الإسلام والباحثين عن “الفطرة” مما يحرم الإسلام من جمهرة من الطاقات والكفاءات لو قدّر لها أن تنتسب إلى “الجامعة الإسلامية”، ويفتح “باب الحجاج” أمام الذين استكبروا وآلوا على أنفسهم أن لا يركبوا “سفينة النجاة”، فنضيف إلى أوراق تحججهم التي يتحججون بها كلّما دعاهم داعي الله أوراقا إضافية، وبدل أن نسحب منهم كلّ أوراق تحججهم ندعمهم بأوراق إضافية يستغلونها في صدّ أنفسهم وصدّ غيرهم عن سبيل الله! وأيّ مصيبة أدهى من هذه المصيبة؟
ودعاة التكفير يصدّون عن سبيل الله، ويتجلّى ذلك في ترجمتهم الإسلام ترجمة منفّرة لا ترجمة مرغّبة، فمن المتفق عليه بين الكتاب والمؤرخين أن انتشار الإسلام في أول أمره بين الأمم والشعوب كان بلسان الحال أكثر منه بلسان المقال، يوم كان لسان الحال لسان الإسلام، ومن رأى “باكورة” الجانب العملي لـ “إسلام دعاة التكفير” عرف أنها بعيدة كلّ البعد عن “النموذج النّبوي”، فرسول الرّحمة صلى الله عليه وآله وسلم كان يردد: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”، وهم قائمون على إيذائه وحربه، مجاهرون بضلالهم وشركهم، مطاردون لأنصاره وأتباعه، ودعاة التكفير يرمون إخوانهم ـ فما بالك بمخالفيهم ـ من الذين يلهجون بشهادة التوحيد بالكفر والمروق من الدين، ولا يكتفون بترويعهم وقتلهم، بل ويمثلون حتى بجثثهم، ومتى قاتل الإسلام النّاس لأنهم يخالفونه في الدين؟ فالإسلام يعد القتال استثناء ولا يأذن به إلا لردّ العدوان، “والإسلام ـ كما قال محمد البشير الإبراهيمي ـ يعتبر السلم هو القاعدة، والحرب شذوذ في القاعدة، لأن الإسلام دين عدل ورحمة وعمران وعصمة فيما يسميه علماء الإسلام بالكليات الخمس وهي: الدين والعقل والعرض والمال والنسب”، أما المخالف في الدين فالإسلام يضمن له حريته الدينية كاملة غير منقوصة، فالإسلام لا يحارب الكفار لكفرهم وإنما يحارب المعتدين لعدوانهم.
والحقيقة التي لا يملك المرء إلا أن يصدع بها ـ لأن من كتم داءه قتله ـ هي: أنّ كلّ حركة من حركات دعاة التكفير تصب في مصبّ الصدّ عن سبيل الله، وكأنّ رسول الله شعيب ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقصدهم بقوله: “ولا تقعدوا بكلّ صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا”، وإذا كانت “الحركة الباطنية” أصبحت علما على كلّ محاولة لاختراق الإسلام من الداخل، بعد أن باءت محاولات نقض عراه من الخارج بالفشل، فهل يحق للباحث أن يسأل: هل دعاة التكفير هم من “الباطنية الجدد”؟ الذين صنعهم “جهل الداخل” و “كيد الخارج” للانقضاض على “ملامح اليقظة” التي بدأت بشائرها تلوح في الأفق البعيد، وهل آن أوان استخلاص الدروس والعبر حتى تكون الأمة الإسلامية عصيّة على كلّ مشروع من مشروعات الاختراق، وعندها تصون دينها من تحريف الغالين، وتحصّن داخلها من مكائد الكائدين، وتحفظ منجزاتها من عبث العابثين.
وإذا كانت مصنفات السيرة النبوية تتحدث عن “عام الحزن” فإنّ المسلمين يتجرعون مرارة “أعوام الحزن”، وإذا كانت مصنفات السيرة النبوية تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في “عام الحزن” تداعت عليه قريش، فإنّ المسلمين في “أعوام الحزن” تداعت عليهم الأمم، والذي يدع الحليم حيران أنّ المسلمين يقدمون هذه الأمم، وما دعاة التكفير إلا شاهد صدق أو شاهد خزي على ذلك.
الأستاذ: أحمد رشيق بكيني رئيس المركز الثقافي الإسلامي سطيف ـ الجزائر