يعتبر موضوع الولاء والبراء إحدى المواضيع الشائكة التي يستند عليها الخطاب المتطرف في تبرير موقفه من غير المسلمين وبل والمسلمين في حدذاتهم حيث وسعوا المفاهيم القرآنية والنبوية الشريفة التي جاءت في هذا الباب والتي جاءت أساساً لتوحيد الأمة مع بعضها ضد أعداءها وبناء الحصانة الداخلية ضد الغدر وضد الخيانة، فتحوّلت عندهم إلى آلية داخلية تطبّق على المسلمين ذاتهم، وبات بذلك موضوع الولاء والبراء ساحة مناوشة بين تيارين؛ تيار يرى أن الإسلام جاء بالعدوان، ودعى اتباعه إلى الانعزالية والانغلاق ومقاطعة أصحاب الأديان والثقافات المخالفة لهم، وتيار آخر غالى في الاهتمام بهذا الموضوع وضخّمه وأخرجه من سياقاته الحمائية إلى سياقات تفتيتية داخل البنية الإسلامية الواحدة، ونورد هنا جملة من الملاحظات في هذا الموضوع دون الولوج في المناقشات العلمية التي طالت وتكاثرت بين المهتمين في هذا الباب:
المتابع لتاريخ تطور الأفكار في التراث الإسلامي لا يقف على كثير اهتمام للعلماء السابقين بهذا الباب، ولم يحتل هذا الموضوع هذه المكانة من الاهتمام إلا في عصور متأخرة جداً من تاريخ العالم الإسلامي، كما أن عامة المسلمين لا يسمعون به مطلقاً ولا يعرفون عنه شيئا لذا أي تبرير يُقبل في تصويره أساساً من أسس الدين الإسلامي يُقرن بالتوحيد ونبذ الشرك، وعموم الناس لا يعرفون عنه شيئاً وينحصر النقاش فيه بين العلماء والمتخصصين.
كثرة الاختلافات بين علماء الإسلام في فهم الآيات والأحاديث الدالة على موضوع الولاء والبراء، مما يجعله موضوع اجتهاد واختلاف وتنوّع، لا يجوز الإنكار فيه على الرأي المغاير مادام وارداً في سياق المذاهب الفقهية المقبولة بين عموم المسلمين، والكل مجتهد والكل مأجور بقدر جهده.
كثرة الالتباسات والأخطاء في فهم آيات القرآن الكريم الدالة على الولاء والبراء عند العلماء السابقين بسبب كثرة الأدلة فيه والتي يشير البعض إلى بلوغها حد 250 آية ومنهم من يرفعها إلى 300 آية، ولنضرب لهذا مثلا بالإمام القرافي الذي تعرّض للموضوع في كتابه الماتع “الفروق” حين عرّج على آيات سورة الممتحنة في الفرق 119 من فروقه:” وفرق بين ما لم يأذن به الله من مودة ومولاة غير المسلمين وبين ما أمر به من الإحسان إليهم، وأقام رأيه على أن المعنيين بآيات سورة الممتحنة هم أهل الذمة، بينما الآيات واضحة وضوح الشمس في كبد النهار أنها نزلت في المشركين وعلاقتهم بالمسلمين وليست في أهل الذمة الذين يعيشون في كنف المسلمين. كما أن ابن القيم في كتابه “أحكام أهل الذمة ” حين تعرض لآيات سورة الممتحنة أسقط أمراً مهماً دار عنه معنى الآيات وهو التفريق بين صنفي من المشركين فرقت بينهما الآية الثامنة والآية التاسعة (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) ) واعتقد سهواً أنهما الفرقة نفسها.
من الفهم الموضوعي الشامل لآيات القرآن الكريم وخصوصا آيات سورة الممتحنة التي تعتبر ركيزة باب الولاء والبراء يتّضح وبشكل متكرر أن الموالاة التي نهت عنها الآيات القرآنية في كذا من موضع هي تلك الموالاة التي تعني أمرين مجتمعين وهما المحبة القلبية مضافاً إليها المناصرة والمعونة والمظاهرة، والارتباط بين هذين الأمرين وارد في الكثير من الآيات منهما قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (الممتحنة:1)
كما يظهر أنه كلما نهى القرآن عن محبة المشركين قرن وفي أغلب الحالات كلامه عن محبتهم حال كونهم محاربين معادين للمسلمين، أما إن لم يكونوا محاربين فلا حرج أن يدور الود في علاقات المسلمين بهم استجابة للطبيعة الإنسانية وهو ما دلت عليه جملة من آي القرآن الكريم وآثار النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وسير أصحابه.
مما يدلل على ما أشرنا إليه سالفاً من القرآن الكريم، قوله تعالى مخاطباً نبيه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )(القصص(56) والمعروف أن الآية نزلت في أبو طالب الذي رفض أن يعلن شهادته بالرغم من إلحاح النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، فكيف يحب النبي عمه كما أشار القرآن الكريم وهو على شركه، إنه حب الفطرة الذي دع نوح السلام أن يخاطب الله في ابنه المشرك قال تعالى:( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(هود:45 )،كما أنه هو الحب الذي دعانا القرآن الكريم للاستجابة له اتجاه الوالدين المشركين اللذين يجاهدان على ثني ابنهما على دينه (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 15)
مما يدلل على ما أشرنا إليه سابقاً سيرة الحبيب المصطفى مع غير المسلمين الذين لم يتحرّج مطلقاً في ودّهم والتعامل معهم، مع كرهه لكفرهم لا لأشخاصهم كونهم بشراً يقابلونه بالحسنى كحاله مع قبيلة خزاعة مسلمهم ومشركهم الذين كانوا عيبة نصح( أمناء سر) لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، وكان الرسول يودهم، ويبرّ بهم، وحاله مع المطعم بن عدي الذي أجاره وحماه من المشكرين حال عودته من الطائف، وبقي النبي يذكره بالخير بالرغم من موته على شركه، وبكاه شاعر الرسول حسان بن ثابت في قصيدته الشهيرة:
أَيَا عَيْنُ فَابْكِي سَيّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِي
بِدَمْعٍ وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدّمَا
وَبَكّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ كِلَيْهِمَا
عَلَى النّاسِ مَعْرُوفًا لَهُ مَا تَكَلّمَا
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدّهْرَ وَاحِدًا
مِنْ النّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا
وكذلك أبا البختري الذي جاء يحارب في بدر مع المشركين و أوصى النبي بعدم قتله، لأنه سعى لنقض الصحيفة أيام حصار مكة وكان أكفّ قريش عن رسول الله وغضب رسول الله حسن سمع بمقتله، وحاله مع جاره اليهودي، ومن قصص زوجاته صفية بنت حي بن أخطب التي أوصت لأخيها وهو يهودي بوصية من ميراثها وهو يهودي وكانت تبرّه وتحسن إليه.
تبرز إشكالية التنزيل والتطبيق لهذا المفهوم على أرض الواقع في زماننا، ويبدوا فيها الانفصام الواضح بين المفاهيم القرآنية والنبوية وبين ما تطرحه بعض الجماعات والجهات التي تصرّ على تنزيلات واقعية كانت غير منطقية و باتت ضرباً من ضروب اللغو في عصر العولمة وذوبان جبال الجليد التي كانت تربط بين الثقافات والأعراف المختلفة، كتصنيفهم إلقاء التحية على غير المسلمين، والابتسامة لهم، والعمل معهم، والإقامة في بلدانهم، وزيارتهم وعيادتهم، وإكرامهم والتقرب لهم بالهدايا أشكالا من أشكال الولاء التي يرون حرمتها ويلوون نصوص القرآن الكريم لتبرير هذه الانفصامية العجيبة، التي تنافي تماماً هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين وروح القرآن الكريم التي جاءت لتدمج المسلم في منظومة التوافق الإنساني لا أن تعزله وتزرع فيه روح النفرة من عباد الله، غافلين أن كل آيات البراء التي نزلت كانت تقصد جمعاً واحداً من غير المسلمين وهم فقط المحاربون والمعادون للدين دون غيرهم، ولعل أغلب آثار السلف وسيرهم تخدم هذا المفهوم وتسايره فهذا المروزي يقول سألت أحمد ابن حنبل عن مسلم له قريب نصراني مريض ويعوده، أفيزوره؟! قال أحمد: نعم، فكرّر المروزي نصراني؟؟!! فقال أحمد: أرجو ألا تضيق العيادة!، وأين هؤلاء من مجاهد بن جبر الذي أتاه أحدهم يسأله أن لي قريباً كافراً ولي عليه مال أفضعه عنه فأجابه التابعي الجليل نعم ضعه عنه وصله ( أي زده ). وغيرها من الأدلة التي تكشف عن انسجاماً عجيباً للأجيال الأولى في الإسلام مع الروح القرآنية في مفهوم الولاء والبراء.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.