إنّ الخطوة الأولى في طريق “التجديد الديني” تبدأ بإعادة الاعتبار للقرآن الكريم والسيرة النبوية، فمما يجب أن يُعلم أنّ القرآن الكريم تكفّل بعرض الجانب النظري للإسلام، وأنّ السيرة النبوية تكفّلت بعرض الجانب العملي للإسلام، ولله درّ أم المؤمنين عائشة، فقد أومأت إلى هذه الحقيقة الكبرى عندما سئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: “كان خُلقه القرآن”، والمشكلة التي يتجرع “العقل المسلم” مرارتها أنه لا يفقه من القرآن الكريم إلا إقامة حروفه، ولا يعرف من السيرة النبوية إلا سرد مغازيها، ومن نافلة القول أنّ بذرة “التجديد الديني” لا يكتب لها “الإنتعاش” إلا في تربة إصلاح التعليم الديني.
والخطوة الأولى في طريق إعادة الاعتبار للقرآن الكريم والسيرة النبوية تبدأ باعتبارهما “الإطار المرجعي المعصوم” الحاكم على كلّ الاجتهادات البشرية التي تتردد بين الخطأ والصواب، وأخطر عقبة كؤود في هذا المعترك الفكري الدقيق أن تتحول الاجتهادات البشرية من اجتهادات بشرية محكومة من قبل “الإطار المرجعي المعصوم” إلى اجتهادات بشرية حاكمة على “الإطار المرجعي المعصوم”، ومعضلة المعضلات أن يسربل سدنة التخلف الفكري الاجتهادات البشرية بسربال العصمة والقدسية، فتراهم يبرّرون المساس بـ”الإطار المرجعي المعصوم”، ولا يسوغون المساس بهذه الاجتهادات البشرية التي يجري عليها الخطأ والصواب.
ولا يخفى على الباحثين والدّارسين أنّ “الموروث الفقهي” يقسّم الجهاد إلى قسمين هما: جهاد الدفع؛ وهو رد العدوان، فإذا اعتدي على بلد من بلاد المسلمين وجب على أهل ذلك البلد رد العدوان والدفاع عن أنفسهم، وجهاد الطلب؛ وهو دعوة الكفار إلى الإسلام، فإن أبوا فالجزية، أي: الرضى بسلطان المسلمين، فإن أبوا فالقتال حتى يكون الدين كلّه لله، فـ”الدول الكافرة” على حدّ تعبير “الموروث الفقهي” مخيّرة بين أمرين: إمّا الإسلام وذلك بالدخول فيه، أو الدخول تحت سلطان دولته وسيادتها، وإما إعلان الحرب وبدأ القتال!
ولا أدري لماذا وقع التركيز في “الموروث الفقهي” على جهاد الدفع بـ”الفعل” دون التركيز على جهاد الدفع بـ”القوة”؟ رغم أنّ تحقق جهاد الدفع بـ”القوة” يُوقف تحرش المتحرشين، ويمنع عدوان المعتدين، ويكفي المؤمنين جهاد الدفع بـ”الفعل”، وغني عن البيان أنّ العمل على تحقيق جهاد الدفع بـ”القوة” من مقاصد الإسلام، ويبين محمد الطاهر بن عاشور هذه الحقيقة بقوله: “فمن مقاصد الإسلام أن تكون الأمة الإسلامية مرهوبة الجانب محترمة، منظور إليها في أعين الأمم الأخرى نظرة المهابة والوقار، يخشون بأسها، ليردعهم ذلك عن مناوشتهم إياها، وتكدير صفو الأمن فيها”، والجدير بالذكر أنّ العمل على تحقيق جهاد الدفع بـ”القوة” لا يقتصر على الجانب العسكري فقط كما يخيّل للكثير من الناس، بل يشمل كلّ ميادين الحياة مما يضمن خروج الأمة الإسلامية من أوحال “الغثائية”، وعندها تحصّن كيانها وتحفظ بنيانها فلا تداعى الأمم عليها.
ومعضلة المعضلات التي تتجرّع الأمة الإسلامية مرارتها تفشّي “ثقافة كتم الداء” وغياب “ثقافة علاج الداء”، وقديما قالت العرب: “من كتم داءه قتله”، فجهاد الطلب اختطفه “الموروث الفقهي”، وآن الأوان أن يعاد إلى أحضان “الموروث النبوي”، فـ”الموروث النبوي” يرى أنّ جهاد الطلب يقوم على ثلاثة أركان وهي: الدولة، والقدوة، والدعوة، فالدولة التي تملك آليات الرهبة الدولية والهيبة العالمية، لا تحتاج إلى بسط سلطانها لأنّ الدول تخطب سلطانها، والأمة التي تتسم بمكارم الأخلاق ومحاسن الإسلام لتكون قدوة حسنة في أعين المخالفين، ليست في حاجة إلى تكثير سوادها، لأنّ الناس يدخلون في دينها أفواجا، والمجتمع الذي يتمثّل قول الله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: (110 يفتح القلوب والأوطان، وحقائق التّاريخ تقول: إنّ الفتوحات الدعوية أجدى من الفتوحات العسكرية، وما حقّقه اللسان عجز عن تحقيقه السنان. ولا ريب أنّ هذه “الثلاثية النبوية” تضمن نشر الإسلام، وتوسيع سلطانه، وإخراج النّاس من الظلمات إلى النور، والأهم أنها تضمن وأد عقدة الثأر فلا تبقى الحرب سجالا، فمما هو مقرر أنّ المغلوب لا يهدأ له بال حتى يثأر من الغالب، وعندها تُستأصل أهم جذور إزهاق الأنفس وسفك الدماء، وتنتشر هداية ربّ الأرض والسماء. ولو أنفق دعاة جهاد الطلب في “الموروث الفقهي” أوقاتهم وبذلوا جهودهم في تحقيق “الثلاثية النبوية” لحققوا ما يصبون إليه، وكفوا أنفسهم إزهاق الأنفس، وسفك الدماء، وسبي النساء …
ومن جناية عصر التخلف الفكري على الإسلام هجر محورية القرآن الكريم في “البناء الفقهي”، “فضعف سلطان القرآن على النفوس ـ كما قال محمد البشير الإبراهيمي ـ وأصبح العلماء لا يلتزمون في الاستدلال بآياته، ولا ينتزعون الأحكام منها إلا قليلا: فعلماء الكلام صاروا يستدلون بالعقل، والفقهاء صاروا يستدلون بكلام أئمتهم أو قدماء أتباعهم”، ولو تدبّر “الموروث الفقهي” حقّ التدبر قول الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ( هود:118- 119) لعلم حقّ العلم أنّ جهاد الطلب الذي يقول دعاته إنّ حكمه يتردّد بين الوجوب العيني والوجوب الكفائي يناقض مقاصد القرآن الكريم، وقد أبدع صاحب التحرير والتنوير في تفسير هذه الآية القرآنية الكريمة فبيّن أنّ اللام في قوله تعالى:”لجعل” للتعليل” وبالتالي “كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم”، فالقرآن الكريم ينادي في العالمين أنّ الغاية من خلق الخلق الاختلاف، ودعاة جهاد الطلب في “الموروث الفقهي” يسعون ـ علموا أم لم يعلموا ـ إلى صبغ العالم بصبغة واحدة، والخطورة كلّ الخطورة في استيلاء هذه الأفكار على عقول “دعاة التكفير” إلى حدّ الهوس مما يجعلهم يصمّمون على “القضاء على الأديان الباطلة” لـ”يكون الدين كلّه لله”، وعندها فإنّ البسيطة لا تعرف إلى الاستقرار سبيلا، وإنّ الخليقة لا تعرف إلى الأمن طريقا، وإنّ باب “التعايش الإنساني” لا يزال دون طرقه أحقاب.
إنّ “علامة الجهاد في الإسلام ـ كما قال محمد الغزالي ـ دفع البغي وكسر شرة المعتدين”، والسيرة النبوية التي هي بحقّ الجانب العملي للإسلام لا تعرف إلا هذا اللون من الجهاد، و”لقد كان الجهاد الذي جاهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ـ كما قال محمد الطاهر بن عاشور ـ كلُّه دفاعا عن الحوزة، وتأمينا لجامعة المسلمين من تسلط أعداء الدين عليها”، وإنّ عملية استقرائية للحروب التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبيّن تبيانا قطعيا لا ظنية فيه أنّ كلّ الحروب كانت دفاعا عن المسلمين، وحفاظا على بلاد الإسلام، وما أروع إيجاز محمد البشير الإبراهيمي للشروط المسوغة للحرب في الإسلام، إذ قال: “ففي قوله تعالى: (يُقَاتَلُون)، وفي قوله: (بأنهم ظلموا)، وفي قوله:( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) في الآيتين 39 و40 من سورة الحج، بيان للشروط المسوغة للحرب في الإسلام، تحمل عليها نظائرها في كلّ زمان”.
وإذ استتب لكلّ قارئ أنّ القرآن الكريم والسيرة النبوية براء مما اصطلح “الموروث الفقهي” على تسميته جهاد الطلب، بل إنّ “الإطار المرجعي المعصوم” لا يعرف أنّ الجهاد قسمان: جهاد الدفع وجهاد الطلب، والحقيقة أنّ هذه القسمة الثنائية من محدثات “الموروث الفقهي”، والمشكلة أنّ “الموروث الفقهي” كثيرا ما يستنجد بـ”الفتوحات الإسلامية” لتسويغ جهاد الطلب، ومتى كانت “الفتوحات الإسلامية” مصدرا من مصادر التشريع؟ وهل يعقل أن تكون “الفتوحات الإسلامية” حاكمة على “الإطار المرجعي المعصوم”؟ والأصل أن تكون “الفتوحات الإسلامية” محكومة بـ”الإطار المرجعي المعصوم”، فإن وافقت “الإطار المرجعي المعصوم” فبها ونعمت، وإن خالفت رفضت ولا كرامة، ولكن من جناية عصر التخلف الفكري على دين الفطرة جعل “الموروث الفقهي” أصلا و”الإطار المرجعي المعصوم” فرعا يذكر ـ إن ذكر ـ للتقوية والتأييد إن وافق، فإن خالف أُرغم بكلّ صنوف التأويل والتمحّل حتى يوافق، وذلك هو الوجه القاتم لغربة هذا الدين التي حذّر منها سيّد المرسلين.
*الأستاذ أحمد رشيق بكيني. مدير المركز الإسلامي، سطيف. الجزائر