مع اعتلاء أخبار العمليات الإرهابية مقدمات الأخبار والأحداث اليومية في عالم ما بعد 11 من سبتمبر، زادت حدة الاستقطاب ومحاولة حشر الأديان وبشكل خاص الدين الإسلامي في الزاوية وتبرير كل ما يحدث بسبب تعاليم الأديان والكتب المقدسة، طبعاً هذا الاستقطاب يندرج في مخطط اقصائي للدين وأبعاده الروحية التشاركية ودوره في تحقيق انسانية الإنسان، بغض الطرف عن طبيعة الدين ومدى انتشاره الشعبي العام. ومع هذا لا يمكننا أن ننكر بأن الدين كظاهرة وفهوم بشرية تسبب بشكل أو بآخر في الكثير من مآسي البشرية لكن في كل الحالات المسجلة في التاريخ كانت الفهوم البشرية هي المسؤولة عن هذه المآسي، وليست نصوص الدين ومقاصده العامة، وفي أغلب الحالات كانت السياسة هي تلك اليد الخفية التي تتحرك في الخفاء، وتتدثر بالدين كغطاء لتبرير جشع صناعها ولاعبيها. وهو الأمر نفسه الذي لازال يحدث إلى يومنا هذا حيث يستلهم العنف السياسي والطائفي والعرقي الدين ويبرر وجوده بخطابات ثورية دينية تستطيع وبسهولة تعبئة الرأي العام وكسب التأييد انطلاقاً من سلطة العقيدة الجامعة على العقل والجوارح. فالذي حدث ولازال يحدث هو أن الحركات الثورية سواءاً أكانت سياسية أو عرقية أو طائفية تعمد إلى استلهام عقائد الناس وتتبنى قضاياهم لتؤمّن لنفسها تحقيق الانتشار والشعبية بين العامة، وتوظّف كل ذلك في خدمة توجهاتها السياسية، فهي في خضم ذلك تستهدف خصومها نظراً لمواقفهم السياسية أو لتصنيفاتهم العرقية وليس لمرجعياتهم الدينية، أي أن الدين يُستجلب لتبرير الوحشية التي تنتهجها هذه الحركات في مسيرة تدافعها مع المخالف السياسي أو العرقي، وهو الأمر الذي لازال يتجسد في عالمنا المعاصر ومع كافة الأديان السماوية وغير السماوية، فكما استلهم تنظيم القاعدة الدين الإسلامي وشعارته السياسية في تبرير أجندة سياسية بحتة للتنظيم كانت تقوم على وجوب وقف تدخل الآخر (الغرب) سياسياً وعسكرياً في عالم المسلمين؛ وظّف داعش الإسلام ومبادئه ومفاهمية التاريخية لتبرير ثورته على طبيعة العملية السياسية و الصراع الطائفي والعرقي الذي انفجر في العراق بعد الغزو الأمريكي. والتنظيمان على تطرفهما ودمويتهما وبُعدِهما عن روح الإسلام لم يزيدا عن أنهما تبنيا قضايا سياسية بحتة كانت تؤرّق شريحة واسعة من المسلمين، ووجّها كلا التنظيمين كافة ضحايا الكبت والإقصاء والتهميش في تجسيد حلولهما لهذه القضايا السياسية.
نموذج آخر على استلهام التوحش البشري للدين وتوظيفه في صراعات السياسة والدين، استلهم هذا النموذج دين المسيح الذي جاء برسالة المحبة ليرتكب أشنع المجازر التي شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فعندما فشل الصرب في السيطرة على كرواتيا بعد تفكك يوغوسلافيا عمدوا ولدوافع سياسية بحتة إلى السيطرة على البوسنة، مستعينين في ذلك بصرب البوسنة، الذين شكلوا جماعات ووحدات شبه عسكرية تولت تنفيذ جرائم التطهير العرقي والقتل الممنهج بحق المسلمين والكروات من أجل مساحة جغرافية أكبر للدولة الجديدة الناشئة على انقاض اتحاد يوغوسلافيا المتداعي، تسمّت هذه الوحدات التي كانت تخدم أهدافاً سياسية وعرقية بحتة (صربيا الكبرى)، بأسماء من قبيل “ذئاب فوتشيك”، “النسور البيضاء”، “الدبابير الصفراء”، وكانت أشنعها على الإطلاق “فرقة العقارب” الرهيبة. كانت قيادة هذه الفرقة التي نشطت في كل من كرواتيا والبوسنة وكوسوفو فيما بين 1991 و 1999 تحت يد سلوبودان ميديتش، وكان منطقها السياسي يرى أن صربيا الكبرى يجب أن تخلوا من المسلمين بقايا العدو التاريخي لهم (الإمبراطورية العثمانية) كما يجب أن تخلوا من الكروات لأنهم ليسوا من العرق الصربي ولأنهم كاثوليك، كان هذا الدافع العرقي والسياسي كافياً لهم لأن يرتكبوا سلسلة من الجرائم المروعة التي لا تختلف كثيراً عما ترتكبه داعش اليوم بل وتفوقه وحشية واستهتاراً، لكن هذه المرة تحت غطاء المسيحية، حيث كانوا يصرّون في كل مرة يرتكبون فيها مجزرة على شق صدور القتلى بالسكاكين عمودياً وأفقياً لرسم علامة الصليب، وقطع أصبعين من كل يد وترك ثلاثة للدلالة على إشارة التثليث في العقيدة المسيحية. وقائمة جرائم هذه المجموعة من حرق القرى الآمنة، بعد قتل كل رجالها وترك توقيع ممهور بالدم وفريد من نوعه على جثث قتلاهم.، واغتصاب النساء بطريقة وحشية، بزعم إنتاج أجيال صربية “نقية”،وما مذبحة سريبرينتسا في يوليو(تموز) سنة 1995 إلا واحدة من سلسلة مذابح هذه الفرقة الشنعية وغيرها.
الوحشية البشرية وصراع السياسة والعرق نفسهما يتكرران لكنها هذه المرة تستخدم ديناً آخر لطالما عرف بكونه دين الروحانية و انسجام الانسان مع الانسان والطبيعة بامتياز وهو البوذية التي بشّر بوذا فيها بفلسفة الانسجام والصفاء الأبدي، حيث تُوظف الديانة البوذية ومعابدها في بورما في صناعة إرهاب عرقي جديد يتولى كبره كهنة من أمثال “آشين ويراثو” الزعيم الروحي لحركة” 969 ” المتطرفة ورئيس منظمة “Ma Ba Tha” لحماية العرق والدين وقد لقبته مجلة التايم الامريكية بـ” بن لادن البوذية” ونشرت المجلة الأمريكية عنه وعن منظمته في 20 جوان 2013 تقريرا مطولا تحت عنوان “وجه الإرهاب البوذي” عن جرائمه وأعماله الإرهابية ذات الدوافع العرقية ضد الأقلية المسلمة في بورما الذين نكبوا بهذا الإرهاب البوذي منذ احتلال الملك البوذي “بوداباي” أركان المسلمة عام 1784م وضمها كولاية إلى بورما البوذية، وصولا إلى عهد الاحتلال البريطاني لبورما عام 1824م الذي دفع البوذيين لاضطهاد المسلمين خدمة لأغراضه السياسية، وليس انتهاء باستلام الجيش البورمي الشيوعي الحكم عام 1962م وارتكابه مجازر بحق مسلمي الروهنجيا بالرغم من دعم المسلمين للثورة منذ أيامها الأولى. أشار تقرير مجلة التايمز إلى تفاصيل التعبئة الدينية التي تتم في المعابد البوذية لتأجيج الكراهية تجاه مسلمي الروهنجيا، وإثارة العنصرية من خلال خطاب مليء بالتحريض على العنف ضد سكان أركان الذين يختلفون عرقياً عن باقي السكان من البوذيين، هذه الحملات وغيرها أنتجت لأحدث يونيو 2012 الشهيرة التي هاجمت فيها مجموعات من البوذيين البلدات والقرى المسلمة في ولاية راخين متسببين في تشريد ما يقرب من 22 ألف شخص، وقد قُدِّرت أعداد النازحين، منذ شهر يونيو 2012، إلى الآن بـ 125 ألف نازح، وهو ما صنفته منظمات دولية عديدة تحت مظلة التطهير العرقي، ووُصفت حركة 969 البوذية بأنها “الحركة القومية-النازية الجديدة الأسرع نموًّا في بورما”. والأمر نفسه يحدث مع مسلمي سيريلانكا الذين يعانون من إرهاب حركة بوذية قومية سنهالية، تدعى بودو بالا سينا (BBS): (سلطة القوة البوذية) التي تعتبر العنصر المسلم في سيرلانكا خطراً عرقياً، وتدعوا أتباعها إلى إرهاب المسلمين والتضييق عليهم، وهي الحركة التي تقف وراء أحداث سنة 2014 التي استهدفت القرى التي يقطنها المسلمون، وهي حركة تفرعت عن منظمة دينية عرقية أكثر تطرفاً منها وهي تنظيم جاثيكا هيلا أورومايا (JHU) الذي كان مسؤولاً عن أحداث سنة 2013 التي استهدفت المسلمين بشكل واسع.
في ظل هذه النماذج الثلاثة (المسلمة، المسيحية والبوذية) تبرز النقطة التي أشرنا إليها في مفتتح هذا المقام والقائمة على أن للعنف والإرهاب أسباب متعددة من سياسية وعرقية إلى اقتصادية لكن الأفكار والديانات ليست من تلك الأسباب، بالرغم من اتخاذها مرجعية وأرضية للاستلهام من طرف النماذج الثلاث ومرجعية ثابتة لانتشار وتسويق أجندتها. فأينما كان هناك وضع اقتصادي متدهور، وبطالة مستشرية، ونسبة جرائم قتل وسرقة مرتفعة، وغياب للعدالة السياسية والاجتماعية (وكلها لو لاحظنا مشاكل قائمة نتيجة غياب التطبيق العملي والصحيح لمبادئ الأيان) كلما ظهر التطرف كردة فعل سياسي واقتصادي أو حتى عرقي، وتدثّر برداء الدين حيث يتبارى القتلة في إظهار وحشية يعتقد أصحابها أنهم يتقربون بها من الرب. وقد حلّل الباحث الأميركي ويليام فيشر في دراسة عنوانها “في الحرب على الإرهاب كل الأسماء متعادلة” هذه النزعة البشرية للتذرع بالدين في تبرير التوحش وكذا تبرير أي سياسة مضادة. فمشكلة التوحش مرتبطة أساساً بسلوك وتدافع الإنسان، لا بدينه، الدين مجرد ذريعة لارتكاب الجريمة وليس سببا لها، وما دام التفريق بين الدين بمفهومه الإلهي والتدين ببعده البشري ليس واضحاً عند هذه الجماعات وعند كل الناس بشكل عام فإن المشكلة ستبقى هكذا دون حل، وسيبقى الإرهاب يصّر على الالتصاق بالدين بالرغم من أن الإرهاب لا دين له.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.