إنّ الإسلام دين الحقوق قبل أن يكون دين الواجبات، وأول حقّ أقره الإسلام حقّ الوجود، ومن تأمّل الكليّات الخمس وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل، عرف أنها كلّها تهدف إلى حفظ حق الوجود وترقيته، فلا عجب أن يظل المؤمن في فسحة من دينهما لم يُصِبْ دما حراما، فقدثبت في صحيح البخاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دما حراماً”، فـ”الفسحةُ في الدين ـ كما قالأبو بكربن العربي ـ سَعَةُ الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره”،كيف لا والمرء أمام جريمة من اقترفها في حقّ واحد من البشر كان كمن اقترفهافي حقّ كلّ البشر، وصدق الله تعالى إذ يقول: “مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا “(المائدة: 32).
والحقيقة أنّ “الفسحة الدينية” التي ذكرها حديث البخاري تقوم على ثلاث دعائم وهي: الإيمان، والتوبة، والنجاة، والذي يجب الوقوف عنده مليّا أنّ الحديث النبوي قال: “ما لم يُصِبْ دما حراما”، ولم يقل: “ما لم يسفك دما حراما”، وهذا من دلائل إعجاز البلاغة النبوية، فالإصابة قد تكون كلمة أو شطر كلمة، وقد تكون تغريدة على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تكون شبكة من شبكات التجنيد، وقد تكون … وقد تكون …، وهل هناك من فرق بين المتسبِّبين والمباشِرين؟وهل هناك من فرق بين من يُجَنِّدُون ومن يُجَنَّدُون؟ وهل هناك من فرق بين من يُحَرِّضُون ومن يُحَرَّضُون؟ والحقّ أنّ المتسبِّبين أشدُّ جرما من المباشِرِين، فلماذا يحكم “الموروث الفقهي” بقتلالمباشِرِين وعقابالمتسبِّبين؟ وهل يعقل أن تكون عقوبة “العقل المدبّر” أخف من عقوبة “الآلة المنفذة”؟وهذا هو مجال عمل الهيئات الفقهية في العالم الإسلامي إذ ينبغي أن تراجع “الحمولة الدلالية” للكثير من المصطلحات الفقهية.
ونعود للدعامة الأولى وهي: الإيمان؛ وهل تبقىللإيمان فسحة لمن ولغ في الدم الحرام؟ولكن مما يلفت انتباه الدّارسين والباحثين أنّ “الموروث الفقهي” اختلف في إيمان تارك الصلاة؛ ففريق من الفقهاء والمحدثين قال بكفره، وذهب فريقآخر إلى عدم كفره على عظم ذنبه، ولم يختلف “الموروث الفقهي” في إيمان من أصاب دما حراما، وقَتَل النّفس التي حرّم الله، وحكم عليه بأنه مؤمن على عظم جرمه وشنيع فعله، ولو طُرحت هذه المسألة على بساط البحث العلمي لتبيّن أنّ الأدلة على كفر قاتل النفس التي حرّم الله أوضحوأظهر، أو على الأقل متكافئة، والمقال لا يكفّر تارك الصلاة، ولا يدعو إلى تكفيرقاتل النفس التي حرّم الله، ولكن لا ريب أنّ الحكم بالكفر دليل على فظاعة الفعل، فالقول بكفر تارك الصلاة ـ مثلا ـ دليل على فظاعة ترك الصلاة، ولو قُدِّر للفطرة أن تتكلّم لقالت: إنّ إزهاق الأنفس لا يقل فظاعة عن ترك الصلاة، ووحي النّص يُعضّد وحي الفطرة، والمعضلةأنّ “الموروث الفقهي” يغفل “البعد التربوي” أثناء صياغة الحكم الشرعي، فالحكم علىقاتل النفسالتي حرّم الله بالكفر من “الناحية التربوية” يؤدي إلى تهويل هذه الجريمة، ويزيدها فظاعة على فظاعة، فلا يجترئ المجترئون على إزهاق الأنفس خشية الخروج من حظيرة الإيمان.
وأمّا الدعامة الثانية وهي: التوبة؛ فهل إزهاق النفسالتي حرّم الله يترك فسحة للتوبة؟ ولهذا ذهب العبادلة الثلاثة؛ ابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، إلى أنّ قاتل النفسالتي حرّم الله لا توبة له، وكأنّ الذي يُوصد باب الحياة في وجه الناس يُوصد الله باب التوبة في وجهه، والذي يحرِم الناس من الحياة الحقيقية يحرِمه الله من الحياة المعنوية، وهل الجزاء إلا من جنس العمل؟ “وهذا ـ كما قال ابن رشد الحفيد ـ لأن القتل فيه حق لله وحق للمقتول، وشرط التوبة من مظالم العباد، رد التبعات، أو التحلل، وهذا لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يعفو عنه المقتول قبل القتل”، والواجب استحضار”البعد التربوي” عند الحديث عن غلق باب التوبة في وجه هؤلاء الذين يعتدون على “بناء الله”، فالإنسان إذا عرف أنّ الولوغ في دماء الأبرياء يُوصد باب التوبة، ولا يترك للقاتل فسحة، يجعله يفكّر ألف مرّة قبل الإقدام على هذه الفظاعة، وما أكثر الذين يُقدمون على هذه الخطيئة وتراهم يُعلّلون أنفسهم بالتوبة!ولقد كان حبر الأمة عبد الله بن عباس على الرغم من أنّ مذهبه أنّقاتل النفسالتي حرّم الله لا توبة له، يراعي “البعد التربوي” بحسب مقتضى الحال؛ فيقول لهذا لا توبة لك، لأنه رأى شرارة الغضب تتقد من عينه، ويقول لذاك لك توبة، لأنه رأى سيماء الندامة بادية على وجهه، فـمراعاة “البعد التربوي” ليس بدعا من الرأي، ولهذا فإن استجلابه يجب أن يخضع لـ”فقه الموازنات”.
وإذا انتقلنا إلى الدعامة الثالثةوهي: النجاة؛ فإنّ القرآن الكريم حكم صراحة على الذين يعبثون بدماء الأبرياء بالخلود في النّار” وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا” ( النساء:93)وهل الخلود في النار يُحمل على المجاز وهو طول المكث، أو يُحمل على الحقيقة وهو التأبيد، فقد اختلفت أنظار المفسرين، وتعدّدت أراء الفقهاء، وبعيدا عن هذا الجدل الفقهي فإنّ “ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفسـ كما قال محمد الطاهر بن عاشور ـ قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ”، وفي هذا دلالة وأيّ دلالة على أنّ جريمة إزهاق النفس التى حرّم الله ليست كباقي الجرائم،ولهذا جاء فيصحيح البخاري من حديث ابن عمرقال: “إنّ من وَرَطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حِلِّه”، وإذا عرف المرء أنّ فسحة النجاة من النّار تضيق إذا أصاب دما حراما، وأنّ الأمل في النجاة من النار ودخول الجنة يتبدّد ويتلاشى، فإنه قد يفكّر في كلّ خطيئة إلا خطيئة القتل، لأنها تغلق باب الطمع في الجنة.
فما أعظم هذه الخطيئة! وما أكبر هذا الذنب! ونعوذ باللهمن خطيئة تُصيب إيمان المؤمنين فيهيمون على وجوههم تائهين، وتُطاردتوبة التائبينكلّما طرقوا للتوبة باباوجدوه موصدا، وتُهدّد نجاة الناجين كلّما ركبوا سفينة يريدون النجاةأحاط بهم الموج من كلّ مكان،ويكفي أنّ هذه الجريمة تظل تلاحق القاتل حتى تُوقفه بينيدي الله تعالى يوم القيامة، فقد جاء في مسند أحمد من حديث ابن عباس: “يأتي المقتول معلقاً رأسه بإحدى يديه متلببًا قاتله بيده الأخرى، تشخبُ أوداجه دمًا حتى يقفا بين يدي الله تعالى”، فلا عجب أنّ أول “ملف”يقضى فيه يوم القيامةبين الناس “ملف الدماء”، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان:”أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء”، “فإياك أيها الأخ الكريم ـ كما قال عبد الحميد بن باديس ـ أن تلقى الله تعالى بمشاركة في سفك قطرة من دم ظلما ولو بكلمة فإن الأمر صعب والموقف خطير”.
*الأستاذ أحمد رشيق بكيني. مدير المركز الإسلامي، سطيف. الجزائر