تعتبر العهدة العمرية التي كتبها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لنصارى بيت المقدس سنة 15 هـ معلماً بارزا في سياسة الإسلام اتجاه أصحاب الأديان الآخرى، وأصبحت مع مرور الأزمنة مفخرة يفتخر بها الإسلام الذي بشّر بقيم التسامح في القرون الوسيطة التي لم تكن مفاهيم وقيم التسامح بين الأديان والأمم فيها مقبولة أو مستساغة حتى. وعلى الرغم من الآراء التي أثيرت حول ثبوت هذه الوثيقة التي أوردها كل من اليعقوبي وابن البطريق وابن الجوزي والطبري ومجـير الـدين العليمي، وتجاهلها مؤرخون آخرون مثل ابن الأثير والواقدي وابن الجزري وابن خلدون والسيوطي وغيرهم. إلا أن الخلاف انحصر عند المتخصصين في تفاصيل النص وليس في مسألة الثبوت من أساسه، ومما يقطع بنسبة هذه العهدة إلى عمر رضي الله عنه روحها المحمدية السامية التي تتوافق تماماً بل وتتشابه حتى في البنود مع رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران.
إلا أن الأمر يختلف تماماً مع نص آخر نسب إلى عمر ابن الخطاب واشتهر في التراث الإسلامي باسم الشروط العمرية، والتي تنضح بكم كبير من الإقصاء والتمييز والإمعان في الإذلال والتحقير وبناء الحواجز والخنادق بين المسلمين وذوي ذمتهم، والغريب أن هذه الشروط تسللت إلى تراثنا الفقهي والسياسي وتداولها الكثير من العلماء دون وقوف دقيق على أسانيدها أو انتباه لتعارضها الواضح مع العهدة العمرية المجمع عليها وتعارضها الصارخ مع نهج النبي في التعامل مع النصارى واليهود وسياسة الرحمة والتسامح التي جاء بها الإسلام، ونورد هنا نص هذه الشروط التي وردت في احدى رواياتها نقلا عن عبد الله ابن الإمام أحمد ابن حنبل في زوائده على مسند أبيه قال: حدثني أبو شرحبيل الحمصي حدثني (عمي) أبو اليمان وأبو المغيرة قالا: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة ( وهي الآن الجزيرة الفراتية: نينوى، الحسكة، دير الزور، اورفا وديار بكر) إلى عبدالرحمن بن غنم: إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا، على أنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشاً للمسلمين، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليباً ولا كتاباً في سوق المسلمين، وألا نخرج باعوثاً، ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وألا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور، ولا نظهر شركاً، ولا نرغِّب في ديننا ولا ندعو إليه أحداً، ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وألا نمنع أحداً من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا مسلماً في تجارة، إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام، ونطعمه من أوسط ما نجد. ضمنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق” فكتب بذلك عبدالرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوا، وألحق فيهم حرفين اشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم، ألا يشتروا من سبايانا شيئاً، ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده، فأنفذ عبدالرحمن بن غنم ذلك، وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط”.
ونورد هنا جملة من الملاحظات على هذه النص الغريب:
تسللت هذه الشروط إلى تراثنا الفقهي والسياسي وأثرت بشكل واضح وجلي في تقرير الكثير من الآراء الفقهية لدى العديد من العلماء، بل وصنفت في شرحها مصنفات، دون أي انتباه من علمائنا لكونها مدسوسة وتتعارض تماماً مع مقاصد الإسلام وسيرة النبي الكريم والخلفاء الراشدين من بعده.
استخدمت هذه الشروط وكذا الأحكام الفقهية المستنبطة منها ولازالت تستخدم من طرف العديد من الجماعات المتطرفة كتبرير لاضطهادهم للأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية، وما يرتكبه داعش في حق نصارى العراق والشام ومصر خير دليل على توظيف هذه الشروط في نقض عرى السلم والأمن في بلاد المسلمين.
اختلطت والتبست الشروط العمرية مع العهدة العمرية على الكثير من علماء المسلمين القدامى والمحدثين، وحتى المستشرقين الغربيين وغفل الكثير منهم عن التفريق بينهما، وتعارف الكثيرون على صحة الشروط العمرية دون أي نقد لها أو عرض لها على الكتاب والسنة.
تضاربت وتخبطت آراء العلماء عن أول من ذكرها وهذا دليل على تململ هذا النص و التحقيق التاريخي يثبت أن أول من ذكرها هو أبو بكر الخلال المتوفي سنة 311 هـ “أحكام أهل الملل” وهو من الطبقة الثانية للفقهاء الحنابلة، ثم ذكرها بعده ابن الأعرابي (ت 340هـ) في معجمه وابن حزم (ت 456هـ) والبيهقي (ت 458هـ) وابن عساكر (ت 571هـ).
وردت هذه الشروط وترددت كثيراً في كتب التراث الإسلامي دون أن ينبرى عقل مسلم لنقدها ومقارنتها بفلسفة الإسلام وهدي النبي الكريم بل وبسياسة عمر ابن الخطاب نفسه مع النصارى وهو الذي كانت من بين آخر وصاياه قوله:” أوصي الخليفة من بعدي بأهل ذمة الله ورسوله وأن يحوطهم وأن يقاتل من وراءهم (أي الدفاع عنهم حتى الموت) وأن لا يكلفوا ما لا يطيقون”. والعجيب أن من علمائنا من خصها بالكتابة كالإمام ابن القيم الذي شرحها في ستة فصول من كتابه ” أحكام أهل الذمة” دون أن يظني نفسه بنقدها، أو مقارنتها بما اشتهر عليه عمل الخلفاء الراشدين فيما يتعلق بأهل الكتاب، والأعجب أن شارح هذا الكتاب الدكتور صبحي الصالح لم يلحظ أي إشكال في هذه الشروط وأقرها وكأنه مسلّم بها، والأكثر عجبا من هذا كله أن المؤرخ المسيحي جورجي زيدان حين تطرق لهذه الشروط راح يعتذر لعمر ابن الخطاب وأثار مسألة تناقضها مع العهدة العمرية ومع سيرة عمر السمحة، بشكل لم ينتبه له العديد من علمائنا للأسف.
وردت هذه الشروط وذكرت في مصادر التراث الإسلامي من أربع طرق، وهي راوية الخلال عن اسماعيل بن عياش، ورواية ابن الاعرابي وابن حزم والبيهقي عن مسروق بن أجدع، وراوية أخرى لابن الجوزي عن سفيان الثوري، ورواية رابعة لابن عساكر عن شهر ابن حوشب، والروايات الأربع متهالكة كما سنعرض:
رواية ابن الخلال تعتبر من أحاديث الرواية عن المبهم : لقوله:” حدثنا غير واحد من أهل العلم” وبإجماع علماء الحديث أن الراوية عن المبهم أو رواية المبهم مردودة وإن كان الذي أبهم إماماً في هذا الشأن. وفي هذه الرواية كان راوي الحديث هو اسماعيل بن عياش الشامي الذي قال فيه أحمد بن حنبل وأحمد ابن معين: “إذا حدث عن أهل بلده فنعم وإذا حدث عن غيرهم خلط وله مناكير” ولم يحدد الرواي عن من روى هذه الشروط هل عن أهل بلده الشاميين أم عن غيرهم؟، فهي رواية عن مبهم، والرواية عن مبهم باطلة لو كان الإبهام من إمام كبير حسب قواعد المحدثين.
وردت رواية ابن الأعرابي وابن حزم والبيهقي وابن عساكر عن مسروق ابن الأجدع الذي رواها عن عبد الرحمن بن غنم، لكن في الطريق إلى مسروق ورد في السند يحي ابن عقبة ابن أبي العيزار وهو كذاب، قال فيه يحي بن معين: “كذاب خبيث عدو الله”، وقال فيه البخاري: “أحادثيه منكر”، وقال فيه أبن أبي حاتم الرزاي: “يفتعل الحديث” لذا قطع الإمام الألباني بضعف هذا الشروط وبطلانها.
رواية ابن الجوزي لهذه الشروط جاءت من سفيان الثوري عن مسروق الأجدع عن عبدالرحمن بن غنم. وهو إسناد يعاني من الضعف بسبب الانقطاع بين سفيان الثوري الذي ولد سنة 97 هـ ومسروق ابن الأجدع التابعي الذي توفي سنة 63 هـ، فبينهما انقطاع كبير، إلى جانب الانقطاع بين سفيان الثوري وبين الإمام ابن الجوزي نفسه الذي توفى سنة 691 هـ، حيث لو يورد ابن الجوزي سنده إلى سفيان الثوري.
إحدى راويات ابن عساكر وردت عن شهر ابن حوشب الذي تكلم فيه بعض علماء الحديث لكن مشكلها العويص في إحدى الرواة وهو أبو محمد ابن زبر قاضي دمشق، الذي قال فيه أبو نصر ابن ماكولا “لا يرتضيه علماء الحديث” وقال فيه الحافظ الذهبي” ليس متقناً” وقال فيه البغدادي في تاريخ بغداد : “لم يكن ثقة” في هي بالتالي رواية ضعيفة.
على غير عادته الإمام ابن القيم أغفل البحث في سند هذه الرواية الضعيفة جداً كما رأينا وكان يدرك أنها لا تقف على سند صحيح لذا علّق عنها قائلا في كتابه (أحكام أهل الذمة):” وكل رواية من روايات هذا الأثر لا تخلو من مقال في إسنادها، إلا أن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها”. ولا يستقيم هذا الكلام مع المعروف في تاريخ الخلافة الراشدة ولا الخلافة الأموية ولا العباسية، كما أن شهرة الحديث ليست دليلاً على صحته.
من أوجه التناقض في هذا الشروط هو تضارب الروايات الواردة في تحديد البلدة التي كتب عقدت الشروط بين مسيحييها وبين المسلمين فمرة هي الجزيرة حسب رواية ابن الخلال، وفي رواية أخرى أنها بيت المقدس، ووردت في رواية ثالثة أنها دمشق وفي رواية رابعة أنها بلدة كذا وكذا هكذا بهذا الإبهام، وهو دليل آخر على ضعفها وتناقضها.
يبدوا أن واضع هذه الرواية اختلط عليه اسم فاتح الجزيرة الذي وجهت له هذه الرسالة فنسب الرواية إلى عبد الرحمن ابن غنم، بينما فاتحها هو الصحابي الجليل عياض ابن غنم، وكل عهود ومصالحات عياض ابن غنم مع أهالي الأراضي المفتوحة مذكورة ومحفوظة في كتب التراث ولا يشبه أي منهم نص هذا الشروط المزعومة. وتتناغم كلها من نص العهدة النبوية وسيرة النبي الكريم.
صياغة الشروط على قدر كبير من الغرابة فكيف يضع المسيحيون شروطاً بهذا الإجحاف على أنفسهم وبمبادرة منهم، فمتى كان المهزوم يضع شروطاً أمام الغالب، ثم يوافق عليها الغالب بالرغم من كونها تتعارض مع سيرته ومبادئ دينه.
الشروط المذكورة في هذه الوثيقة تعكس عقلية المنتصر وتزرع بذور العزل الاجتماعي والأدبي للأقلية المسيحية في المجتمع المسلم، وتعكس تطرفاً واهانة غريبة للمسيحيين، وتتقاطع وتتناقض تماماً مع روح القرآن الكريم وسيرة النبي الكريم وسيرة الخلفاء الراشدين الذين تواترت النصوص على رأفتهم بأهل الكتاب والحض على تكريمهم وصونهم. وتتعارض مع القاعدة التي أقرتها العهدة العمرية القائمة على مبدأ “لهم ما لنا وعليهم ما علينا” الذي ورد في نص العهدة العمرية وفي العديد من معاهدات النبي مع نصارى نجران واليهود والخلفاء الراشدين من بعده.
تعارض الكثير من بنود هذه الشروط مع آراء المذاهب الفقهية وآراء الأئمة وبشكل فاضح كمسألة نقض الذمة واللباس وغيرها.
من بين البنود قول النصارى أن النصارى قالوا: وأن لا يظهروا شركاً” فكيف يصف النصارى دينهم بالشرك.
من الكلمات الغريبة الواردة في الشروط كلمات معرّبة عن السريانية كلفظ ” قلاية” ” الباعوث” “الشعانين” وهي ألفاظ دخلت قاموس اللغة العربية في مرحلة متأخرة جداً عن السياق التاريخي لفترة الفتوحات الإسلامية التي وردت فيها هذه الشروط مما يوحي بتأخر كتابة هذه الشروط عن زمن الفتوحات.
في كتابه الأم اقترح الإمام الشافعي لائحة بنود يرى أنها هي الشروط المعتبرة على أهل الذمة، والجدير بالذكر أنه لم يذكر مطلقاً الشروط العمرية ولم يشر إليها، فكيف يغفل إمام على قدره عن مثل هذه الشروط إن كانت ثابتة ومشهورة في زمانه، والغريب أن من بين الشروط التي ذكرها يتناقض تماماً مع الشروط العمرية الجائرة، وقد أجرى الشافعي شروطه على قاعدة ” لهم ما لنا وعليهم ما علينا”.
تتعارض بعض هذه الشروط تماما مع مبدأ الدعوة التي تقوم عليه فلسفة الإسلام، إذ اشترط النصارى على أنفسهم أن لا يقروأ القرآن أي تعهدوا أن لا يقروأ القرآن الذي هو مفتاح الهداية للإسلام وسبيل الدخول فيه. وهو شرط يزري بالرواية ويزيد من هزليتها.
كل هذه الملاحظات وغيرها مما يضيق المقام بذكرها تكشف زيف هذه الشروط وبطلانها، وكونها من الدسائس التي وضعت لتلويث صورة الإسلام، كما تكشف بطلان الأسانيد الشرعية التي يبرر بها دعاة التطرف دعاويهم وفتاويهم المتشددة اتجاه غير المسلمين، لكنها تكشف في الوقت نفسه حاجة تراثنا الإسلامي إلى إعادة قراءة جادة لتمحيصه وتدقيقه ونخله من جديد وتعرية كل بذور الفتنة والاقصاء، وإعادة بوصلته إلى الروح العامة للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.