ما الذي حدث؟ حتى أصبح سكان البسيطة ينامون ويسيقظون كلّ يوم على وقع الاعتداءات الإرهابية، التى لم تترك دولة من الدول إلا روّعتها وأرهبتها، فلم تعد هناك دولة آمنة مطمئنة، وغدى الناس يحملون قلوبهم على أكفهم يتوجسون خيفة من كلّ شيء يحيط بهم، وهكذا فقد العالم ثلث الدنيا لأنه لم يعد “آمنا في سربه”، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها” (رواه الترمذي).
ولامراء في أنّ ظاهرة الإرهاب ظاهرة مركبة معقدة؛ ظاهرة مركبة لتعدد أسبابها، وتباين ظروفها، وظاهرة معقدة لتداخل العقول الثلاثة: العقل المدبر، والعقل المنفذ، والعقل المستفيد، والمشكلة أنّ الباحث أمام “ظاهرة متحركة” فكلّما فتح باباً إلا ووجد أبواباً، وكلما فكّك زاوية إلا وغمرته زوايا، وكأنه أمام لعبة سحرية ما إن تنتهي حتى تبدأ، والذي يعنينا في هذه السانحة أن نفتح باباً من أبواب الظاهرة الإرهابية، وأن نفكك زاوية من زوايا هذه الظاهرة المتحركة، وهي: كيف يفكر “العقل التكفيري”؟
والحق أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضع النقاط على الحروف بقوله: “سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (متفق عليه)، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو رسول الرحمة -حسب توصيف الآية السابعة من سورة الانبياء له ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ”- يأمر بقتل هذه “الطائفة النشاز” ولا يأمر باستتابتهم، أي: بمحاورتهم، وفي هذا دلالة وأيّ دلالة في أنّ عودتهم إلى حظيرة الجماعة أمر بعيد المنال، بل ميؤوس منه، ولهذا فإن الدواء الناجع يكمن في تطهير الجماعة نفسَها من وجودهم حفاظاً على الجماعة نفسِها، وصيانة لدين الجماعة من الأفهام القاصرة والتنزيلات المشوّهة، وعندها يُسدّ باب الصدّ عن سبيل الله، ويُرغَّب الآخر في الإسلام بدل أن يُنفَّر منه، والأهم أن لا تكون هذه “الطائفة النشاز” حجة على الدّين الخاتم، فتُسحب ذرائع الطعن من تحت أقدام الطاعنين.
ومن تأمل هذا البيان النبوي، عرف أنه آية من آيات الإعجاز الباهرة، فهو يفرّق بين مستويين من مستويات التعامل مع هذه “الطائفة النشاز”؛ المستوى الأول هو “المستوى الأمني”، ويكون مع كبرائهم ورؤوسهم ومنظّريهم، وذلك بقتلهم وتطهير المجتمع من أدوائهم وشرورهم، والمستوى الثاني هو “المستوى الدعوي”، ويكون مع الأتباع الذين وقعوا في شباك “الطائفة النشاز” لضعف مناعتهم الدينية، والعقلية، والنفسية … ، وذلك بمحاورتهم وإعادتهم إلى حظيرة الجماعة، ومن استنطق الحديث النبوي تبيّن له أنّه وصف أصحاب”المستوى الأمني” بقوله: “يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم”، ووصف أصحاب “المستوى الدعوي” بقوله: “أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ”، وبالتالي فإن المقصود بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” هم أصحاب”المستوى الأمني”، أما أصحاب “المستوى الدعوي” فإنّ الحوار والإقناع يجعلهم يعدلون عن نشازهم ويلتحقون بركب المسلمين، مع اختلاف في طول الزمن وقصره، فذلك يرجع إلى اختلاف مدارك كلّ واحد منهم، ومدى تمكن الشبهات من عقولهم.
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يَقُولُونَ” و”يَقْرَؤون” إشارة واضحة إلى غياب الفهم عند القول، وانعدام التدبّر عند القراءة، مما يعني فقدان “القراءة الواعية” التي يؤدي فقدها إلى تحقيق نقيض مقاصد النصوص الإلهية، ولكن هل سبب فقدان “القراءة الواعية” يرجع إلى فساد المقصد أو إلى فساد التفكير؟ أم إلى فساد المقصد وفساد التفكير معا؟
إنّ هذه “الطائفة النشاز” رغم الاختلاف الحاصل بين مكوناتها في الكثير من التفاصيل والجزئيات إلا أنّ القاسم المشترك الذي يجمعها هو “هوس” الاستيلاء على السلطة، وإقامة “الدولة الإسلامية”! وهي لا تبالي في سبيل تحقيق غرضها أيّ بعير تركب، والطامة الكبرى أنها تركب “بعير” الدعوة ليُوصلها إلى السلطة، وهذا ديدن أهل الدعوات السياسية لا ديدن أهل الدعوات الإلهية! “وشأن أهل الدعوات السياسية ــ كما قال محمّد الطاهر بن عاشورـ أنْ يتوسلوا لترويج أعمالهم بين العامة بالوسائل الاعتقادية لعلمهم بأنّ عقول العامة تقصر عن إدراك الأدلة العقلية وعن توسم عواقب الأمور، ويتوسلوا تلقيهم الأشياء المنسوبة إلى الدين بمزيد الاعتبار من دون تأمل ولا إقامة برهان لثقتهم بأنّ ما يجيء في الدين هو أمر مقطوع بصدقه سواء اطلعنا على دليله أو لم نطلع، فأصحاب الدعوة يسربون دعوتهم للعموم من مسارب الاعتقاد الديني”.
وهذا النص يضع أُصبعنا على زر مفتاحي غاية في الأهمية وهو: “أنّ أقرب الطرق إلى استمالة الناس هو طريق الدين”، ومن تأمل هذا الزر المفتاحي عرف أنّه قاعدة عامة لا في السياسة فحسب بل في كلّ مجالات ومناحي الحياة؛ فمثلا إذا أردت أنْ تُسَوِّق الحجامة والرقية وغيرهما توسَّل إلى ذلك بالدين وسيأتيك الناس زرفات ووحداناً، ومثلا إذا أردت أنْ تُسَوِّق الحبة السوداء والزنجبيل توسَّل إلى ذلك بالدين وسيقبل عليك الناس إقبالاً منقطع النظير، ومثلا إذا أردت نجاح مجموعة بنكية ما توسَّل إلى ذلك بالدين ولا شك أنّ هذه المجموعة البنكية ستنجح النجاح الباهر وسيصاب غيرها بالبوار … ، وهذا هو فساد المقصد في أوضح صوره، وأجلى معانيه.
وأما فساد التفكير فقد أصاب “الطائفة النشاز” لقلة بضاعتها في “العلوم الشرعية”، وإن كانت لهم من بضاعة فهي مزجاة، وذلك ما تشهد به الإحصائيات وتؤكده، ويصدّقه الواقع ويؤيده، وزاد الطين بلّة أنّ تخصصاتهم “جاذبة” كالطب، والقانون، والإدارة … ، مما جعلها فتنة فتنت الكثير من المسلمين، فهؤلاء ينخرطون .. وهؤلاء ينساقون .. وهؤلاء يتحمسون … ، والحق “أن كلّ فرد ــ كما قال محمّد الطاهر بن عاشورـ مأمور بصحة التفكير في دائرة ما يحتاجه من الأعمال تفكيراً يعصمه من الوقوع في مهاوي الأخطاء … فالمقدار الذي يستطيعه من التفكير يجب عليه تصحيح تفكيره فيه، والمقدار الذي لا يستطيعه يجب عليه تطلب الإعانة فيه بمن يبلّغه إلى الحق الصحيح فيه من أهل الإرشاد في ذلك الباب … لأنك تجد كل أحد مشتملاً على حالتين من التفكير، حال الاستقلال بالفكر فيما يبلغ إليه فكره، وحال التلقي والاسترشاد فيما يتجاوز حدّ تفكيره”، وحال “الطائفة النشاز” هي الحال الثانية، ولكن ركبت الحال الأولى فأهلكت الأخضر واليابس.
وإذا كان رجال الإصلاح درجوا على أنّ أصول إصلاح الأفراد تقوم على دعامتين: إصلاح العقيدة، وصلاح العمل،
فإن محمد الطاهر بن عاشور جعل أصول إصلاح الأفراد يقوم على ثلاث دعائم: إصلاح العقيدة، وإصلاح التفكير، وصلاح العمل، ولله دره عندما قال إن أعمال الإنسان “جارية في الصلاح والفساد على حسب تفكيره” لا على حسب عقيدته، وآية ذلك أنّ “الطائفة النشاز” إنّما أوردَها المهالك رغم سلامة عقيدتها فسادُ تفكيرها، وهذا ملمح دقيق يفسّر الهوّة بين الشرق والغرب، ويفكك الكثير من علامات الاستفهام التي ما فتئت تثير الفتنة والحيرة.
وجماع القول أنّ “الطائفة النشاز” أُتيَت من فساد المقصد، ومن فساد التفكير؛ ففساد المقصد أدّى إلى هدر الوقت، وفساد التفكير أدّى إلى ضياع الإنسان، وإذا أهدر الوقت، وضاع الإنسان، فقد التراث قيمته الحضارية، وفاعليته الاجتماعية، وضرب التخلف على الأمة الإسلامية بنسجه، وحال بينها وبين الدخول إلى معترك التاريخ، وحلبة الحضارة.
*الأستاذ أحمد رشيق بكيني. مدير المركز الإسلامي، سطيف. الجزائر