بعد اشتداد وتيرة تراجع تنظيم داعش الإرهابي ميدانيا في كل من العراق وسوريا عمد التنظيم إلى استراتيجية جديدة كان الناطق باسمه محمد العدناني قد أعلنها سنة 2014 ، ودعى فيها المتعاطفين مع تنظيمه «إلى قتل رعايا الدول في أي مكان، باستخدام أي سلاح متاح من دون العودة إلى قيادة «داعش» أو حتى الانضمام إليه تنظيميا!” وقد باتت هذه الاستراتيجية الدموية هي مظهر الانجاز الوحيد لداعش بعد اشتداد الحملة عليه وخسارته لأغلب أراضيه في العراق وسوريا، نتيجة لهذا الوضع الذي يعانيه داعش تزايدت وتيرة عمليات الدهس والطعن في المدن الأوروبية من طرف شباب أثبتت كافة التحريات سوء سجلاتهم الجنائية وازدحامها بالمخالفات وعدم الانضباط ومشاكل الإدمان، فمن حادثة دهس مدينة نيس في يوليو 2016 التي أودت بحياة 84 بريئاً والتي ارتكبها شاب مسلم يدعى محمد سلمان لحويّج بوهلال عانى من تبعات انفصال والديه وتراكم المشاكل المادية عليه والتي دفعته إلى ارتكاب خمس جرائم جنائية، قبل اقدامه على فعلته الشنيعة، مروراً بمنفذ هجوم مطار أورلي زياد بن بلقاسم، الذي كان يكبر أثناء هجومه وكان يحمل مصحفا في حقيبة الظهر، وكان حسب شهادات أصدقاءه مدخنا شرهاً ويحتسي الخمر ويتعاطى الكوكايين وصولاً إلى حادثة الدهس والطعن التي شهدتها مدينة لندن هذا الشهر والتي ارتكبها شباب لهم تاريخ عريق في الانحراف الخلقي.
في ظل هذا الجنون الذي بات يعصف بالمدن الأوروبية وينسف أبجديات الأمن العام الذي بات يهتز أمام زهادة أدوات أعمال الدهس والقتل وسرعة التخطيط والتنفيذ لها واستحالة التنبئ بها، نرى أنه من الواجب إعادة التذكير بجملة من النقاط:
تعتبر الروح الانسانية في الإسلام أقدس المقدسات التي خلقها الله، وقد حرص الإسلام في كل تشريعاته وبمقاصده الخمس من أجل حفظها وتأمينها، وقد عبر القرآن الكريم في غيرما موضع عن حرمة الاعتداء عليها، قال تعالى:”مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ (المائدة: 32)
والآية واضحة العموم شاملة لكل نفس بشرية مسلمة كانت أم غير مسلمة، وقد عبّر عن هذه المنزع النبي صلى الله عليه وسلم في حديثة الشريف حين كان يطوف بالكعبة فقال:” مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا “.
حرم الإسلام الاعتداء على غير المسلم الذي يعيش بين المسلمين وشدّد النبي صلى الله عليه وسلم في الوعيد على من يؤذيه في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم (مَن قتل نفسًا معاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا) وقال في حديث آخر: (من قتل معاهداً لم يرح رائجة الجنة)، فإذا كان الإسلام قد حرم قتل الذميين الذين يعيشون بين المسلمين فماذا عن غير المسلمين الذين نعيش نحن المسلمين في بلادهم كلاجئين أو مقيمين أو مواطنين، فمن المؤكد أن حرمة اعتداء المسلم في هذه المجتمعات على غير المسلم أشد وأغلظ لأن الرزيّة على المسلمين جرّاء هذا الاعتداء أكرث وأشدّ، ولا أدلّ على ذلك مما يتعرّض له المسلمون بعد كل عمل إرهابي في أوروبا من أذى ومضايقات واعتداءات، فمن يعتدي على فرنسي أو بريطاني أو ألماني بإسم الإسلام فهو كمن يعتدي على كافة المسلمين، لأن المسلمين في المجموع سينالهم الأذى من فعله.
من أعمق المعاني التي حرص الإسلام على تأسيسها هو مفهوم المواطن الصالح أو المسلم السوي الذي جاءت العديد من الأحاديث النبوية الشريفة شارحة لخصاله وآدابه في عدد كبير جداً من الأحاديث الاجتماعية التي جاءت تؤسس للأبعاد الناظمة للمجتمع السوي المتراحم من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم: ” المسلم..من سلم.الناس.من لسانه.ويده” ولفظ الحديث عام يدخل في صحة الإيمان المرء سلامة المسلمين وغير المسلمين من لسناه ويده، ونظائر هذا الحديث تملئ كتب السنة الشريفة.
من عظمة الإسلام أنه نهى عن قتل غير المسلم حتى في زمن الحرب ما لم يحمل سلاحاً ويقاتل، بل وشدد في حفظ أرواح كل من ليس مقاتلا: فمن وصايا النبي للمسلمين المتجهين للقتال دفاعاً عن أمن المدينة قوله لهم “أوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، لا تَعْصُوا، وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَجْبُنُوا، وَلا تُغْرِقُوا نَخْلًا، وَلا تَحْرِقُوا زَرْعًا، وَلا تَحْبِسُوا بَهِيمَةً، وَلا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلا تَقْتُلُوا شَيْخًا كَبِيرًا، وَلا صَبِيًّا صَغِيرًا”، وبل ونهى الإسلام عن تعذيب المقاتل الكافر الذي وقع في أسر المسلمين، فلما وقع سهيل بن عمرو يوم بدر وكان خطيبًا مِصْقَعًا لقريش وكان كثير الشماتة والذم للإسلام والمسلمين، فقال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انزع ثنيَّتَيه السُّفليَين فيُدْلَعَ لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا بموطن أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أمثِّل به فيُمثِّل الله بي ولو كنتُ نبيًّا، ولعله يقوم مقامًا لا تكرهه))، إذا كان هذا عن من هو في حالة حرب مع المسلمين، فما بال داعش واتباعه يستبيحون دماء الأبرياء العزل في دول ليست في حالة حرب مع المسلمين كألمانيا والسويد وهولندا وغيرها.
لم يقف حد حرمة النفس البشرية عند الأحياء في الإسلام بل تعداها حتى إلى الأموات حيث أمر الإسلام بتكريم جثة الميت بالدفن مسلماً كان أو غير مسلم، فعن عمر بن يعلى بن مرة عن أبيه قال: سافرتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرَّة فما رأيتُه مرَّ بجثة إنسان إلا أمَرَ بدفنِه، لا يَسأل أمُسلم هو أم كافر” ويروي قيس بن سعد وسهل بن حُنيف أنهما كانا بالقادسية فمرَّت بهما جنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض؛ أي: من أهل الذمة؟ فقالا: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّت به جنازة فقام، فقيل: إنه يهودي؟ فقال: ((أليست نفسًا؟!))
عبثية عمليات الدهس والطعن التي يشنها أتباع داعش وغرابتها من جهة فائدتها لخدمة أجندة هؤلاء، فما معنى أن يخسر الواحد حياته ويضع أهله كلهم في حجيم لسنوات في سبيل سفك دم أحد المارة أو اثنين، بل وما هو حجم الخسارة الذي يسببه هذا العمل للدولة التي يقع فيها الاعتداء، ثم أليس كل اعتداء من هذا القبيل يدفع الدول المعتدى عليها أن تنخرط أكثر في مشاريع محاربة الإرهاب والمشاركة في الحملة الدولية عليه، كما هو الحال عليه في حالة فرنسا وموقفها من التحالف الدولي بعد تسلسل وتتالي الاعتداءات عليها، فكلما وقعت عملية ارهابية كلما زاد انغماس هذه الدول في محاربة داعش أكثر، وهو الأمر الذي يدفعنا للتفكير ملياً في الدوافع الحقيقة لهذه العمليات التي لا يمكن أن تصدر من صاحب نفس سوية، ذات تكفير يمتلك قدراً ولو قليلا من الرزانة.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.