نضخ القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تنص على أن من أهل الكتاب من هم أقرب إلى الله وإلى المسلمين من غيرهم، كما وحث المسلمين على اعتبارهم والبر بهم قال تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (المائدة (82و امتلئت كتب السنة بالأحاديث القولية والعملية للنبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه السمح في التعامل مع النصارى وليس هناك موقف يعكس هذه السياسة النبوية من موقفه من نصارى نجران الذي قدموا المدينة فأكرمهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفرش لهم ردائه ولما حان وقت صلاتهم أذن لهم بالصلاة في مسجده كما أوردت الروايات الصحيحة.
هذا المنهج القرآني والنبوي تبناه وطبقه المسلمون زمن الخلافة الراشدة بحذافيره عند وصول جيوش الفتح الإسلامي للأراضي التي تنتشر فيها الديانة المسيحية كبلاد الشام ومصر وغيرهما، وقصة شكوى القبطي لعمرو ابن العاص وابنه عند الخليفة عمر ابن الخطاب لا تحتاج إلى ذكر نظرا لشهرتها وتعدد مثيلاتها في ذلك العصر. وعلى الرغم من بعض الأخطاء التي ارتكبت من طرف بعض الولاة المسلمين في العهدين الأموي والعباسي ضد أقباط مصر في ما يتعلق بالضريبة ورفعها عن من دخل منهم الإسلام، والتي دفعت إلى ثورة البوشموريين الأقباط في عصر الخليفة المأمون سنة 831م؛ إلا أن عموم العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر الحبيبة استمرت كواجهة ناصعة للتسامح الإسلامي المسيحي، وحتى الثورة التي أشرنا إليها لم تكن ثورة رسمية حيث تبرأت منها الكنسية القبطية ودعى الأنبا يوساب الأول بطريرك الأقباط الثوار إلى وقف ثورتهم وسانده في ذلك الأنبا ديونسيوس البطريرك الأنطاكي الذي صاحب المأمون في حملته العسكرية لاخماد الثورة، ولم يستقر رأي المأمون على الحسم العسكري إلى بعد فشل الجهود الحثيثة والمتواصلة للكنيسة القبطية والأنبا يوساب الأول لايقاف الثورة واقناع البوشموريين بالعودة إلى حظيرة المواطنة العباسية.
فيما عدى هذه الثورة المبكرة جدا في تاريخ المسلمين مع الأقباط تمتلئ صفحات العلاقة بين الطرفين بمواقف تنمّ عن ترابط وتآخي شديدين بين أتباع الديانتين السماويتين، ونورد هنا جملة من المواقف التاريخية المتبادلة بين المسلمين و الأقباط التي يشكك فيها الدواعش و التكفير والعنف هذه الأيام ويستهدفون باستهدافهم الأقباط في كنائسهم من حيث لا يدروا روح الإسلام وتقاليده التي كرسها منذ أربعة قرناً في المناطق التي دخلها.
تذكر كتب التاريخ الإسلامي والقبطي الموقف المشرف للأقباط من الحملات الصليبية التي كانت ترفع شعار الصليب لتبرير أجندتها السياسية والاقتصادية، ففي الحملة الصليبية الأولى استبق الفرنجة هجومهم بأن أرسلوا للأقباط يطلبون مساعدتهم ضد المسلمين بدعوى الأخوّة المسيحيية التي تجمع بينهم، فكان موقف الكنيسة القبطية قاطعاً وصارماً، واختارت الاصطفاف إلى جانب المسلمين، وهو الأمر الذي لم ينساه الفرنجة لأقباط مصر، حيث منعوهم من الحج لبيت المقدس بعد سقوطها في يدهم سنة 1099م انتقاماً من الأقباط لعدم تعاونهم مع الحملة الصليبية، وتذكر المؤرخة الانجليزية بوتشر في كتابها: ” تاريخ الأمة القبطية” أن الأقباط كانوا يفرحون بكل هزيمة يتلاقاها الصليبيون ويحتفلون بهذه الهزيمة لأنهم يعرفون الدوافع الحقيقية لهذه الحملات، ويعرفون جيدا حسن المعاملة التي يقابلهم بها المسلمون.
وتجدر هنا الإشارة إلى ما ذكره المؤرخ القبطي منسى القمص في كتابه: “تاريخ الكنيسة القبطية” أنه سنة 1651م نشي نزاع بين أوقاف كنائس مارجرجس بمصر القديمة التي استهدفها داعش مؤخراً وبين وقف زاوية الشيخ النعماني، ودار النزاع حول أحقية كل من الطرفين في بعض هذه الأوقاف، وبالرغم من حرج الموقف الذي صاغ الصراع بين حق للكنسية وحق للمسجد إلا أن قاضى القضاة المسلم أقام ميزان العدل إذ وجد أحقية الكنيسة فى العقار فأمر بحيازتها له، ولم يمل به الهوى لأن يحكم لصالح المسجد، هذا الموقف الصارم الآخذ والمستلهم لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( المائدة: 8) يضعنا في مفارقة صارخة وصارمة فهذه الكنسية التي حكم القاضي المسلم لصالحها في نزاع عقاري، باتت تفتقد حق الوجود من أساسه عند داعش وما لفّ لفه حين استهدفت من طرف داعش في أبريل الماضي وسقط فيها 106 ما بين قتيل وجريح.
ومادام أن الموقف يقتضي أن ندين ما يتعرض له الأقباط في مصر من طرف المتزمتين الذين لم يعد واضحاً لصالح من يعملون وإلى أي خريطة تفتيتية يهدفون، فإنه من الواجب التذكير بموقف من المواقف المشرفة للكنسية القبطية في حفظ وحدة مصر وأمنها والوفاء للمسلمين أنه في زمن انتصرات محمد علي باشا والامتيازات والحمايات الأجنبية التي حظيت بها بعض الطوائف غير المسلمة في الدولة العباسية، سعت روسيا القيصرية في إطار بحثها عن مواطئ نفوذ لها في الشرق الأوسط لذا رأت أن افضل مطية لها هم الأقباط الذي ينتمون للمذهب الأرثوذكسي الذي تحميه وتشرف عليه روسيا، فأرسل القيصر أميراً يعرض على البطريرك قبول حماية قيصر الروس لشعبه.فذهب هذا المندوب الروسي إلى الدار البطريركية وعرض على البابا بطرس الجاولي (1809 – 1852) أن تتولى روسيا مسؤولية حماية الاقباط في مصر، فكان رد البابا رهيبا على الأمير فقال له: وهل ملككم يحيا إلى الأبد؟ قال له: لا يا سيدي البابا بل هو إنسان يموت كما يموت سائر البشر، فأجابه: “إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت وأما نحن فتحت رعاية ملك لا يموت وهو الله”.حينئذ لم يسع المندوب الروسي إلا أن ينطرح تحت قدميه واخذ يقبلها وتركه وهو يشعر بعظمة هذا الرجل البسيط وقال ” لم تدهشني عظمة الأهرام ولا ارتفاع المسلات، ولم يهزني كل ما في هذا القطر من العجائب بقدر ما هزني ما رأيته في هذا البطريرك القبطي. وحين سمع محمد علي بالخبر سر غاية السرور وذهب إليه ليهنئه على موقفة وما أبداه من وطنية ووفاء، فقال له البابا: (لا تشكر من قام بواجب عليه نحو بلاده) فقال له محمد علي والدموع في عينية (لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك فليكن لك مقام محمد علي في مصر، ولتكن مركبة معدة لركبك كمركبته).
هذه العلاقة الطيبة لمحمد علي مع المسيحيين لم يحافظ عليها حفيده الخديوي عباس حلمي الذي كان على خلاف دائم مع الأقباط لأسباب شخصية وقرر يوماً أن ينفي كل الأقباط إلى السودان فاستدعى شيخ الأزهر الباجوري يستفتيه في ذلك فلما سمع شيخ الأزهر طلبه اعتدل و قال له صائحاً في وجهه: “مه إن هذا لا يكون لك يا خديوي، إن هذا حرام فإنهم أصحاب وطن وإن لهم عهداً في أعناقنا” وأفشل بذلك شيخ الأزهر مخطط الخديوي عباس، واثبت الأزهر كرمجعية دينية أنه الحصن الحصين أمام أي انتهاك لأعراف الإسلام ومبادئه فيما يتعلق بأهل الذمة والمخالفين من أصحاب الديانات الأخرى.
ولعله من الجدير التذكير بالجهود الحثيثة التي بذلها الانجليز لدك اسفين الفتنة والتقسيم في العلاقة بين المسلمين والأقباط لكن كل جهودهم باءت بالفشل فحين ظهرت دعوة المحامي المشهور اخنوخ فانوس الطائفية والمدعومة انجليزياً إلى تأسيس سياسي خاص بالأقباط وتبنى خطاباً مغاليا في مصريته، كان أول من تصدى لها هم الأقباط أنفسهم وعلى رأسهم سينوت حنا وشقيقه بشري حنا و مطران مدينة أسيوط وأجهضوا هذه الفكرة وماتت قبل أن تولد ولم يضم للحزب سوي الداعي إليه وصاحب فكرته فقط وأخمدت الفتنة وخابت مساعي الانجليز، وعندما اغتيل رئيس الوزراء بطرس غالي حاول الانجليز استغلال الفرصة لإشعال الفتنة الطائفية في مصر فعقد الأقباط المؤتمر القبطي في مارس 1911م لهدف واحد وهو إجهاض أي محاولة فتنة بينهم وبين المسلمين، وقاموا بدعوة ولي الدم من عائله بطرس باشا وهو ابنه واصف بطرس غالي الذي كان مقيماً في باريس، وحضر واصف المؤتمر مما أثار سخط الانجليز وعاتبوه قائلين له كيف تضع يدك في يد قتل ابيك، فكان رد واصف صادماً حين أجاب قائلاً ( لئن وضعت يدي في يد قاتل أبي خير من أن أضعها في يد قاتل وطني).
ويبقى موقف الكنسية القبطية من الكيان الصهيوني ناصعاً ومنادياً بوفاء الأقباط لقضايا الأمة العربية والإسلامية فبعد أن وقعت اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع اسرائيل رفض البابا شنودة أن يرافق الرئيس المصري إلى اسرائيل كما رفض أي مبادرة تطبيعية مع الكيان الإسرائيلي وهو الأمر الذى دفعت الكنيسة ضريبته، ليس فقط فى الاستيلاء على دير «دير السلطان» القبطي فى القدس رغم حصول الكنيسة القبطية على حكم محكمة من سلطة الاحتلال لتسليمه للكنسية القبطية بدلاً من إعطائه لكنيسة الحبشة، بل أيضا فى طبيعة السياسة الإسرائيلية المعادية للكنيسة القبطية نتيجة لموقفها بمقاطعة إسرائيل.
هذه المواقف النبيلة المتبادلة بين المسلمين والأقباط في مصر تنزع أي شرعية عن أي استهداف للأقباط في مصر أو أي استهداف لأي أقلية أخرى تعيش بين المسلمين، فرحمة وتسامح الإسلام التي كفلتهم أربعة عشر قرناً لن تضيق بهم في القرن الواحد والعشرين الذين باتت حقوق الإنسان فيه هي الروح المحركة له.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.