حمل الوعيد الأخير الذي أطلقه داعش ضد الأقباط المصريين في 19 من فبراير 2017 كمّاً كبيراً من الحقد والغطرسة بالقدر الذي كان يحمله من الجهل بأساسيات الدين وقواطع السيرة النبوية وثوابت التاريخ الإسلامي الذي حفل على مدى الأربعة عشر قرناً السالفة بعلاقات حميمية ومسالمة بين المسيحيين والمسلمين في مصر الحبيبة. ولم يتوانى داعش ولواحقه من “أنصار بين المقدس” و”أجناد مصر” في تجسيد تهديداتهم التي كانوا قد قدّموا لها بتفجير كاتدرائية القديس مرقس بالقاهرة في 11 ديسمبر 2016، وقاموا بعد نشر تهديدهم الأخير في فبراير بتفجيرات كنيستي مار جرجس ومار مرقس الدامية في كل من طنطا والاسكندرية يوم الأحد 9 أبريل 2017 وصولاً إلى الاعتداء الإرهابي الشنيع الأخير الذي استهدف أبرياء عزل ذنبهم أنهم خرجوا في رحلة دينية إلى دير الأنبا صموئيل في المنيا يوم 26 ماي 2017، هذه السلسلة من التفجيرات الدامية لا يمكن عزلها عن الاعتداءات الفردية التي تحدث هنا وهناك في مصر وتتصيّد الأقباط كضحية لها كحادث نحر قبطي أمام الملأ من طرفي متطرف يوم 4 من يناير 2017، وغيرها من الأحداث التي تكاثرت وتيرتها بشكل مقلق جداً ويدعوا إلى مراجعة واسعة وكاملة للخطط الأمنية المطبقة، كما ويدعوا إلى مراجعة واسعة للأدبيات الدينية السائدة في الشارع المصري والإسلامي بشكل عام حول علاقة المسلمو بالآخر، خصوصاً وأن الواضح من هذه التفجيرات هو استهداف مصر ذاتها كدولة موحدة وقوية وليس استهداف الأقباط كمكوّن من مكوّنات مصر، وهو ما يتواءم تماماً مع المخططات التي نشرت هنا وهناك لإعادة تقسيم دول الشرق الأوسط خدمة للكيان الصهيوني، وكانت مصر دائماً في القلب من هذه المخططات، حيث تشير أغلبها إلى وجوب قيام دولة مسيحية للأقباط في شمال مصر، ومن المسلّم به أن تحقيق هذا المخطط يمرّ عبر قنطرة واحدة وهي قنطرة زعزعة الأمن وإرهاب الأقباط لتبرير فكرة الانفصال والدولة القبطية وطبخها على سجل من الوقائع الدامية ضد هذه الأقلية وبتوقيع تنظيم ينسب نفسه للأسف للأغلبية من سكان مصر المسلمين، وهو في هذه الخطة داعش ولواحقه من تنظيمات إرهابية.
في ظل الذي حدث والذي سيحدث لا قدّر الله لإخواننا الأقباط في مصر تجدر العودة لاستشارة السنة النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدين مع أقباط مصر لتعرية دعوى الانتساب لمن يرتكب هذه التفجيرات إلى الهدي المحمدي، ولتبصير من يتبنى تبريراً أو شبه تبرير لهذه الأعمال والشنائع التي تلحق من الأذى بالإسلام والمسلمين بالقدر نفسه الذي تلحقه بالأقباط.
تعج كتب السنة النبوية الشريفة بالأحاديث النبوية التي تتنبأ بدخول الإسلام إلى مصر وتعكس حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمن وسلامة الأقباط التي يسكنونها فعن كعب بن مالك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (إذا فُتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما)، كما جاء عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنكم ستفتحون أرضًا يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا”، كما روت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أوصى عند وفاته فقال: “الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل الله” ( وقوله” (اوصيكم باهل مصر خيرا فان لهم نسبا وصهرا) وغيرها من الأحاديث والوصايا التي كثرت في كتب السنة وأوصت بأجمعها بالأقباط خيراً وحرصت على حسن معاملتهم وتوقيرهم، وقد أشار العلماء لمعنى “فإن لهم نسباً وصهراً” أن الرحم الواردة في العديد من الأحاديث؛ المقصود بها هاجر أم اسماعيل أبو العرب، والصهر المقصود بها مصاهرة النبي لهم لكون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منهم. ومن اللطائف في هذه الموضوع في كتب التراث أن الإمام النووي أورد هذه الأحاديث في كتابه “رياض الصالحين” في باب :بر الوالدين وصلة الأرحام” إشارة إلى هذه الرحم التي أمر الله ورسوله بها أن توصل بين المسلمين وبين مسيحيي مصر، حتى قبل أن يسلموا. هذا ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم أقباط مصر، أما وصاياه بالرأفة بأهل الذمة من كافة الأديان فكتب السيرة تعج بحرص نبوي شديد على عدم ايذائهم أو التشديد عليها، ومنها قوله – صلى الله عليه وسلم- :” من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة” وقال – صلى الله عليه وسلم : “من آذى ذِمِّياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة” و قال أيضاً:”من آذى ذميًا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله” و قال في وعيد شديد لمن يقتل ذمياً : “من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا ” ومجمل هذه الأحاديث وردت في الصحاح وأجمعت آراء النقاد على تصحيحها، وليس هناك من مصحح لها أقوى من الواقع الذي جسّد هذه الوصايا النبوية فحين فتحت مصر سنة 16 للهجرة حرص الفاتحون تحت قيادة عمرو بن العاص على تجسيد وصايا الرسول الكريم، حتى أنهم لم يدخلوا مصر إلا بجيش قوامه 3000 جندي، حيث لم يتعرضوا للأقباط مطلقاً وجلّ المناوشات التي وقعت كانت بينهم وبين الحاميات الرومية التي كانت تحتل مصر حينها، وحين عُيّن عمرو ابن العاص والياً على مصر سارع -حسب ما ورد في كتاب تاريخ الأمة القبطية للمؤرخ القبطي يعقوب نخلة رفيلة- إلى إعطاء الأمان للبطريرك القبطي بنيامين الذي كان هارباً في الصحراء من بطش الروم له، والذي مكث بعد عودته بطريركاً 39 سنة حتى وفاته وكان عمرو ابن العاص يوقّره ويستشيره في كل قضايا الأقباط، كما عيّن عمرو من الأقباط مستشارين له، ويشير يعقوب نخلة إلى أن اغلب مستشاريه كانوا من الأقباط وكان على رأسهم شخص اسمه شنودة، واستمر الخلفاء على سيرتهم الطيبة مع الأقباط فلم يُرغموا أحداً منهم على الدخول في الدين، ومن الملفت للانتباه أن مصر بقيت ذات أغلبية مسيحية 800 سنة بعد الفتح الإسلامي، أي أنه طيلة عصر الخلافة الراشدة وعصر الأمويين والعباسيين كانت مصر ذات أغلبية مسيحية دون أن يحس الأقباط بحرج في حكم المسلمين لهم ودون أن يحرص المسلمون على فرض الإسلام عليهم.
هذه السماحة الإسلامية مع الأقباط حفظها الأقباط جيداً للمسلمين إذا تذكر كتب التاريخ أن الأقباط ساهموا جنباً إلى جنب مع المسلمين في الدفاع عن بلاد المسلمين زمن الحروب الصليبية، ففي الحملة الصليبية الأولى استبق الفرنجة هجومهم بأن أرسلوا للأقباط يطلبون مساعدتهم ضد المسلمين بدعوى الأخوّة المسيحيية التي تجمع بينهم، فكان رفض بابا مصر قاطعاً وصارماً، واختار الاصطفاف إلى جانب المسلمين، وهو الأمر الذي لم ينساه الفرنجة لأقباط مصر، حيث منعوهم من الحج لبيت المقدس بعد سقوطها في يدهم سنة 1099م انتقاماً من الأقباط لعدم تعاونهم مع الحملة الصليبية.
بعد هذا السرد الموجز للبعد الديني والحضاري لعلاقة المسلمين بالأقباط التي تمتد إلى مرحلة ماقبل دخول الإسلام لمصر، تطرح هذه الأسئلة نفسها بإلحاح: هل يدري داعش ومن يعادون الأقباط ويستهدفونهم شيئاً عن تعاليم دينهم ونبيهم التي أوصت بهم خيرا؟ وهل يعتقدون حقاً أنهم يخدمون باستهدافهم للأقباط قضية من قضايا الدين؟ أم أنهم مجرد معول هدم وتفتيت يوظّف من طرف الكائدين لمزيد من الانهاك لجسد الأمة الجريح؟؟!! حقاً إنها أسئلة محتارة بين وصايا رسول الرحمة وأحزمة داعش الدم.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.