إنّ حركة الحياة لا تعرف إلى الإيجابية طريقا، ولا إلى الاستقامة سبيلا، إلا إذا قامت على ركيزتين أساسيتين هما: الإخلاص والصواب، وهذا هو العمل الصالح الذي يُصلح الحياة ويرقى بها، وهذا هو العمل النّافع الذي ينفع النّاس ويمكث في الأرض، والإسلام يرى أنّ العمل الصالح والعمل النّافع وجهان لعملة واحدة، فالعمل الصالح لا يكون صالحا إلا إذا كان نافعا، والعمل النّافع لا يكون نافعا إلا إذا كان صالحا، ولو فعَّل “العقل المسلم” هذه “الركيزة المقاصدية” لتجاوز الكثير من المطبات الفكرية، وأمن الوقوع في العديد من المنزلقات الحركية، فكل عمل نافع ولكن غير صالح فنفعه موهوم، وكل عمل صالح ولكن غير نافع فصلاحه مخروم، ,وأي نفع في عمل فقد صلاحه؟ وأيّ صلاح في عمل فقد نفعه؟
والمشكلة أنّ دعاة التكفير فقدوا بوصلة الفهم مما أدى بهم إلى فقدان بوصلة التنزيل، ولو وزنوا أعمالهم بميزان الأعمال الصالحة لتبيّن لهم أنّ أعمالهم لا يربطها بالعمل الصالح إلا اسمه، فالعمل الصالح يقوم على ركنين هما: الإخلاص والصواب، والبيان الإلهي يبين هذا الأمر بجلاء في قول الله تعالى: “الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور” (الملك/02)، فقد أثر عن الإمام الفضيل بن عياض رضي الله عنه أنه كان يقول: “أحسن عملا” أي: “أخلصه وأصوبه”، قالوا يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: “إذا كان العمل خالصا ولم يكن صوابا لم يُقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا؛ والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون للسنة”. والقرآن الكريم قال: “أحسن عملا” ولم يقل: “أكثر عملا”، لكي لا يغتر المغترون ـ وما أكثرهم ـ بكثرة إنجازاتهم حتى يعرضونها على هذه “الآية المعيار”، فالعبرة في حُسن العمل لا في كثرته، والأساس في نفع العمل لا في ضوضائه.
والحقّ أنّ النّاظر في أعمال دعاة التكفير يرى أنها مجانبة للإخلاص بعيدة عن الصواب؛ فالإخلاص هو انحراف خطير في دوافع العمل، فبدل أن يكون العمل ابتغاء وجه الله يكون ابتغاء عرض من الدنيا قليل، والمصيبة كلّ المصيبة عندما يُخيّل للكثير من النّاس أنّ الحماس الذي يزج بهم في أتون المهلكات هو الإخلاص الذي يدفعهم إلى ميدان المكرمات، وقديما عُرف الخوارج باندفاعهم ولم يُعرفوا بإخلاصهم، وتحدّث النّاس عن تهورهم ولم يتحدث النّاس عن تجردهم، وكيف لا تتجلّى ألطاف الله على الذين يقصدون بأعمالهم وجه الله لتنتشلهم من الغي إلى الرّشد، وتأخذ بأيديهم من التيه إلى الرّشاد، وآفة الحماس والاندفاع أنّ الغرور يُحيط به من كلّ جانب حتّى يختم على قلبه ويحجب عقله فيُهلك صاحبه، وأما الإخلاص فإنّ صدق صاحبه يجعله محل نظر الله فييسره لليسرى حتى يسلك طريق الحقّ والصواب.
وأما الصواب فإنه يقوم على دعامتين هما: صحة العمل فهما، وسلامة العمل تنزيلا، وآفة دعاة التكفير الفهم القاصر، والتنزيل العليل، وآراؤهم تشهد بقصور فهمهم، وأعمالهم تنبئ عن فساد فطرتهم، وانحرافاتهم تبين انطماس بصيرتهم، ولو قدّر للإسلام أن يتكلم لقال: اشهدوا أني بريء مما يعملون، ولو قدّر للرحمة المهداة أن يكون بين ظهرانينا لردّد: سحقا سحقا سحقا إنّكم بدّلتم بعدي، وحرّفتم شرعي، وإنّه لأمر مُفجع حقّا أن تكون رسالة الرحمة رسالة قسوة، وأن يكون أتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال ذات يوم عصيب مناجيا ربّه: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” يقتّلون أتباعه، ويسبون نساءه، ويفترون على الله الكذب ويقولون: “والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون” (الأعراف/28) وأيّ فحشاء أفحش من قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وترويع الآمنين، وإرهاب الأبرياء والمسالمين.
ومهما يكن من أمر فإنّ دعاة التكفير ظنّوا الاندفاع إخلاصا، والتّشدد تدينا، والحقّ أنّ الاندفاع نوع من أنواع التهور التي تدل على سطحية الالتزام، وسذاجة الفهم، وغوغائية المحيط، وانتشار الرويبضة، والتّشدد والتّدين خطّان متوازيان لا يلتقيان، فحيثما وجد التّشدد غاب التّدين، وحيثما وجد التّدين غاب التّشدد، فالتّشدد يدل على بدائية في التدين، ورعونة في التصرف، وطيش في العقل، ولله درّ الإمام مالك بن أنس رحمه الله الذي كان يردّد في موطئه: “ودين الله يسر”، وما أروع تعليق مـحمّد الطاهر بن عاشور على كلام الإمام مالك إذ يقول: “وحسبك هذه الكلمة من هذا الإمام فإنه ما قالها إلا بعد استقراء الشريعة”، ولكن الغوغاء تسير خلف الاندفاع لأنه يُنفّس عن مكبوتاتها علمت أم لم تعلم، وتتهلّل أساريرها للتّشدد لأنها تفهم الإسلام سجنا يعاقب لا مدرسة تهذّب، وتعاليمه أغلالا تُقيّد لا أغلالا تُحرّر، ولكن متى يعرف الناس أنّ أغلال الله تجعل حرّيتك في عبوديتك، وأغلال الأغيار تجعل عبوديتك في حريتك.
وحسبوا أنّ الصّواب التزام بحرفية النّص، وجمود على ظاهر النّقل، والحق أنّ الصّواب التزام بروح النص، واستنطاق لظاهر النّقل، وعندها ننفذ إلى مقاصد الشريعة نروم تحقيقها، ونسعى إلى تفعيلها، وبهذا يظهر الوجه المشرق للدين الخاتم فيدخل النّاس فيه أفواجا، وبدل أن يكون المسلمون رسل قتل وتدمير يكونون رسل إصلاح وتعمير، ويساهمون في بناء الإنسانية التي أثخنها القتل والدماء، وأقضّت مضجعها الفتن الهوجاء، فالإسلام لا يعرف الإكراه، “لا إكراه في الدين قد تبين الرّشد من الغي” (البقرة/256)، ولا يريد بناء جامعته من أناس مكرَهين على الدخول فيه، لأنّهم أعضاء مشلولة في جسم الجامعة الإسلامية، والإسلام يريد أعضاء حية تتمثّله، وتنشره، وتذبّ عن حياضه، ورضي الله عن عمر بن الخطاب الذي كان يقول في دعائه: “اللهم اجعل عملي كلّه صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا”.
*الأستاذ أحمد رشيق بكيني. مدير المركز الإسلامي، سطيف. الجزائر