إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض الدينية التي لا يقوم الدين إلا بالنهوض بها، ومن الواجبات الاجتماعية التي لا يصلح المجتمع إلا بتحقيقها، ولهذا نصّ القرآن الكريم على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى: “ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” (آل عمران/104)، “وصيغة (ولتكن منكم أمّة) ـ كما قال محمد الطاهر بن عاشور ـ صيغة وجوب لأنها أصرح في الأمر من صيغة (افعلوا) لأنها أصلها”، ولحيوية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عاقب الله المقصّرين والمتقاعسين بطردهم من حظيرة الرّحمة الإلهية، قال الله سبحانه وتعالى: “لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون” (المائدة/78 ـ 79)، والحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي من طرق عن عبد الله بن مسعود يبين أنّ عقوبة اللعن لا تختص ببني إسرائيل فحسب، بل تشمل كلّ الذين تخلوا عن فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولهذا أعلنها رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ مدوّية إذ يقول: “والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطرا، أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم”.
وأزمة “العقل التكفيري” هي في عدم التفرقة بين الأمر بالمعروف، وحمل النّاس على المعروف، والنّهي عن المنكر، وحمل النّاس على الانتهاء عن المنكر، وهذه مسألة دقيقة أدّى عدم فرزها إلى وقوع دعاة التكفير في مطبّات فكرية وحركية قاتلة، فكان أن أفسدوا الدين وشوّهوه، وأهلكوا المجتمع وأوبقوه، فالقرآن الكريم يأمر أتباعه بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، ولا يأمر أتباعه بحمل النّاس على المعروف، والانتهاء عن المنكر، ولتبيان هذه الحقيقة الدعوية يقول الله سبحانه وتعالى: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” (التوبة/71)، والسنّة النّبويّة تفرّق بين المجاهر بالمنكر وغير المجاهر به، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: “كلّ أمتي معافى إلا المجاهرين”، فالأول كما قال عبد الحميد بن باديس: “قد تعدّى على مجتمع النّاس بما أظهر من فساد، وما أوجد من قدوة سيئة، وما عمل بمجاهرته على شيوع الفاحشة (المنكر) فيهم، وقد تعدّى على الشرع بما انتهك من حرمته، وجرأ من السفهاء عليه”، وأمّا الثاني كما قال عبد الحميد بن باديس: “قد سلم منه الناس فلم يؤذهم بشره، ولم يدعهم إلى الاقتداء به، وسلم منه الشرع فلم يكسر هيبته، ولم ينقص عند النّاس من حرمته، فسلم له هو عرضه من القدح، وبدنه من الحدّ”.
وأزمة “العقل التكفيري” هي في عدم التفرقة بين المجاهرين بالمنكر وغير المجاهرين به، وظهر ذلك جليّا عندما خيّل له أنّه أقام “دولة الخلافة”، والحقيقة أنّ الدولة يمنحها الإسلام صلاحية حمل النّاس على المعروف، ونهيهم عن المنكر إذا كانوا من صنف المجاهرين، وردع المجاهرين تفرضه الشرائع السماوية، وتُوجبه القوانين الوضعية، وأمّا إن كانوا من صنف غير المجاهرين فلا ينبغي تتبع عوراتهم، أو التجسس عليهم، أو تسوّر بيوتهم، فقد أخرج أبو داود من حديث أبي أمامة عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال: “إنّ الأمير إذا ابتغى الريبة في النّاس أفسدهم”، ولهذا لما تسوّر الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بيت أحد المواطنين في المدينة المنورة، ووجد عنده امرأة وخمرا، وهمّ بردعه ومعاقبته، فقال الرّجل يا أمير المؤمنين لا تعجل علي، إن كنت عصيت الله في واحدة، فقد عصيته في ثلاث، فالله تعالى يقول: “لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلموا على أهلها” (النور/27)، فالمجاهرة بالمنكر خرم للجامعة الثقافية، وإخلال بالآداب العامة، واعتداء على مجتمع الناس، ومما هو مقرر أنّ الإنسان حرّ ما لم يضر، فإذا أضرّ فإنّ إضراره يعدّ اعتداء على الآخرين فوجب نصحه، وإلا تنبيهه، فإن لم يكن فردعه، وهل يعلم دعاة التكفير أنّ أمر الدولة بالمعروف، ونهيها عن المنكر لا يتوقف عند ترغيب النّاس في المعروف، وتبيان منافعه، وترهيبهم من المنكر، وتبيان أضراره، بل يتعدى ذلك إلى السعي إلى إحداث فضاءات للمعروف، وتجفيف فضاءات المنكر، فأمر الشباب بالعفاف ـ مثلا ـ لا يعني ترغيبهم فيه وتبيان منافعه فحسب، وإنما يعني علاوة على ذلك إحداث فضاءات للعفاف، وتجفيف فضاءات الرذيلة.
وأزمة “العقل التكفيري” هي في عدم التفرقة بين المعروف المجمع عليه، والمعروف المختلف فيه، والمنكر المجمع عليه، والمنكر المختلف فيه، فعلماء الشريعة يقرّرون أنّ الأمر بالمعروف يكون في دائرة المعروف المجمع عليه لا في دائرة المعروف المختلف فيه، والنهي عن المنكر يكون في دائرة المنكر المجمع عليه لا في دائرة المنكر المختلف فيه، وإلا تحوّل الأمر من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر إلى حمل النّاس على خط اجتهادي ما، وملاحقة الخطوط الاجتهادية الأخرى، وهذا من التحجير على النّاس، والتضييق على المجتمع، وهو قضاء على “التعددية الفقهية” وتكريس لـ”الأحادية الفقهية”، وما يفعله دعاة التكفير من حمل النّاس على خط اجتهادي ما وتسفيه الخطوط الاجتهادية الأخرى، يؤدي إلى توسيع دائرة المعروف، وتمطيط دائرة المنكر، مما يؤدي إلى تقليص دائرة المباح، وقد أراد الله تعالى أنْ تكون دائرة المباح أوسع دوائر الحياة الإنسانية حتّى لا يعرف التبرّم إلى النّاس سبيلا، فدعاة التكفير بهذا الصنيع يدفعون النّاس إلى التبرم دفعا، مما يجعلهم يخلعون ربقة التكاليف أو يتحايلون عليها، والذي أضاع الأمة الإسلامية هو تركها للمعروف المجمع عليه، وإتيانها للمنكر المجمع عليه، واشتغالها بالمعروف المختلف فيه، وتركيزها على المنكر المختلف فيه، وجرّ النّاس إليه بطريقة أو بأخرى، وربّما تصنيفهم على أساس موقفهم منه.
وعلى كلّ حال فإنّ أزمات “العقل التكفيري” لا تنتهي، وأزمة الأزمات التي يتخبّط فيها وتتجرّع الأمة مرارتها، أنه لم يستوعب بعد أنّ العالم يعيش عصر التخصص؛ فالمعروف أصناف ومجالات، يشمل كلّ مناحي ومجالات الحياة، والواجب أن يشتغل كلّ فريق بالمعروف الذي يحسنه ويتقنه، يدعو إليه ويأمر به، فالمعروف الديني له علماؤه، والمعروف السياسي له رجاله، والمعروف الاجتماعي له مختصوه … إلخ، والمنكر ـ أيضا ـ أصناف ومجالات، يشمل كلّ مناحي ومجالات الحياة، والواجب أن يشتغل كلّ فريق بالمنكر الذي يحسنه ويتقنه، ينهى عنه ويُحذّر منه، فالمنكر الديني له علماؤه، والمنكر السياسي له رجاله، والمنكر الاجتماعي له مختصوه … إلخ، ولو كان لدعاة التكفير قلوب يفقهون بها لسعوا وفق “سنة التدافع الحضاري” إلى وضع الهيئات والمنظمات الدولية، والإقليمية، والقارية، والوطنية، على سكة العدل والفضيلة، وعندها تساهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بالمساهمة في إقرار سنام المعروف وهو العدل، ورفع عمود المنكر وهو الظلم، وتلك خدمة جليلة يقدّمها شهداء الله على النّاس للنّاس.
*الأستاذ أحمد رشيق بكيني. مدير المركز الإسلامي، سطيف. الجزائر