تبدوا ظاهرة الإرهاب في النظرة الأولى ظاهرة مستشرية وغير ذات نهاية، لكن الحقائق التاريخية تؤكد أن كل الحركات الإرهابية عادة ما تنتهي لعدد من الأسباب المختلفة، فعلى سبيل المثال تشير احصاءات معهد الاقتصاد والسلام العالمي إلى أنه منذ ستينيات القرن الماضي انتهت معظم التنظيمات الارهابية التي كانت نشطة في هذه الفترة نتيجة معالجات سياسية ، بينما انتهت 7% فقط منها باستخدام القوة المسلحة ضدها. ولعل تاريخنا الإسلامي يزودنا بأدلة توثيقية لهذه الحقيقة حيث اندثرت ظاهرة الخوارج بشكل تام من تاريخنا بعد أن احتلت الأحداث في نهاية عصر الخلافة الراشدة التي شهدت 5 حروب للخوارج ضد الدولة متمثلة في سلطة الإمام علي رضي الله عنه، وبداية الخلافة الأموية التي شهدت ما يزيد على 23 ثورة لهم ضد الدولة، وتمكنت في بعض من الأحيان من هزّ أركان الدولة القائمة كما فعلوا في أول مواجهة لهم مع الدولة الأموية الناشئة زمن معاوية حيث كاد أن يخسر لصالحهم سنة 41هـ لولا نصرة أهل الكوفة له.
وعلى الرغم من تعدد فرق الخوارج وتنوعهم حيث بلغوا 30 فرقة في أكثر الاحصاءات توسعاً، باءت كل هذه الجماعات بالفشل، وطواها الاندثار والنسيان، بعد أن فقدت مبررات وجودها، وقضت على الرصيد الأخلاقي الذي تأسست به ومن أجله. ونحاول هنا أن نقارب التاريخ مع الحاضر في مقارنة سريعة بين اندثار ظاهرة الخوارج ومصير الحركات المتطرفة المعاصرة التي باتت مشهداً يومياً في حياة المسلم والعالم الإسلامي. ونورد هنا هذه النقاط للمقارنة بين أسباب أفول ظاهرة الخوارج والتي ستتسبب في أفول حركات الإرهاب المعاصر:
- عانى الخوارج من ضعف التأطير الديني وعدم وضوح المفاهيم الدينية لهم بشكل واضح نظراً لخضوعهم لقيادات قبلية في الأساس وليست لقيادات علمية ذات تحصيل علمي واسع، وقد ثبت ذلك تاريخياً بخلو صفوف الخوارج الأوائل من أي صحابي جليل أو تابعي عرف بالعلم والمعرفة، والأمر نفسه مع الإرهاب الحديث الذي تأسس ونشأ وترعرع على يد قيادات لا تمت للعلوم الشرعية بصلة، وتخرج أغلبهم من كليات الهندسة والطب، بينما لم يحصّل الأتباع منهم مستويات علمية عالية، لذا سرعان ما تتغير القناعات بعد التجربة والاحتكاك مع الواقع، ويتم التخلي عن ما كان الواحد منهم مستعداً لدفع حياته من أجله، ولا أدلّ على ذلك من سلسلة المراجعات الفكرية التي أجرتها الجماعة الإسلامية في مصر على منهجها، وما شهدته الجماعات المسلحة في الجزائر من تراجعات سياسية وفكرية بالجملة .
- لم يخرج الخوارج عبر مراحل تطورهم عن كونهم فرقة حربية وذات أجندة حربية بحتة، غير مسنودة بأي سند سياسي أو علمي، لذا غلب عليها التقلّب وفق أمزجة قادتها الذين كانوا عموماً من القادة القبليين وليسوا من أهل العلم والدراية، وهو ما ساهم في تفتيت هذه الفرقة بسهولة وانقسامها لجماعات وأحزاب متضاربة وصلت حد التناحر الداخلي بينها، وهي حالة تتجلى بوضوح مع حالة الجماعات الارهابية المعاصرة التي تتكاثر وتنفصل عن بعضها بسهولة وأحياناً لأسباب لا تكاد تلمس أو تفهم، فالسلفية الجهادية التي ولدت في سبعينات القرن الماضي باتت الآن سلفيات متكاثرة، ومتضاربة ويجسد ذلك صراع داعش مع القاعدة في كل من سوريا وأفغانستان، وصراع طالبان مع داعش، وجسّد ذلك سابقاً تناحر الجماعات الجهادية في الجزائر بين بعضها البعض في منتصف التسعينات.
- الطبيعة النزوية لهذه الحركات حيث تنشأ أساساً كردة فعل عنيف على ظلم سياسي متحقق ضد شريحة معينة في المجتمع، فيستلهم الساخطون عقائد الناس ويتبنون قضاياهم وليس العكس، وبمجرد أن يثبت لديهم عجزهم عن تحقيق آمال الشعوب ويفشلون في أقناع المسلمين بآرائهم يذوبون في الحياة ويتراجع أغلبهم عن قناعاته، وتجسد أغلب التنظيمات المتطرفة الحديثة هذه النقطة، حيث اندثرت أغلب الجماعات
الإرهابية في الجزائر نظراً لانحرافها وعجزها أن تقنع الناس بأجندتها وتحقيق ما ترنوا إليه، وكذا فعلت الجماعات الجهادية في مصر فيما سمي بالمراجعات وكذلك يتجه تنظيم القاعدة وداعش إلى الاندثار حيث فشل في أن يؤثر في المسلمين أو أن يحقق أي أمل من آمالهم، بل نكبهم وأنكى جراحهم، وزادهم من الطين بلة.
- بساطة التأطير النظري لهذه الجماعات، حيث تفتقد أفكارهم للتأصيل، وتفتقد أعمالهم للتبرير الديني الرصين، نظرا لبساطة مستويات تعليم منظريهم وسفاهة منطقهم “معاشر أخفاء الهام سفهاء الأحلام ” وهو ما يعطي لأعدائهم أفضلية في تفكيكهم والقضاء عليهم بسهولة كما كان حال القائد الأموي المهلب بن أبي صفرة معهم حيث استطاع إلقاء الخلاف بينهم وتشتيهم ومن ثم اضعاف شوكتهم والتفرد بكل مجموعة منهم على حدى، والأمر يتكرر في عصرنا حيث يتم اختراق هذه الجماعات بسهولة من طرق أجهزة مخابرات متعددة وتوظيفها لتحقيق مصالحها وزعزعة الاستقرار في العالم الإسلامي.
- غياب التناسق في تركيبتهم الفكرية والثقافية والعرقية يجعل من تماسك هذه الحركات أمراً صعباً، فلا تفتأ فتنة داخلية بينهم أن تنتهي حتى تبدأ أخرى بسبب هذا التفاوت، فالخوارج الأوائل عزلوا قائدهم معدان الإيادي بسبب بيت شعر لم يفهموه وولّوا بعده عبد الله بن وهب الراسبي، وتوالت الخلافات بينهم بشكل أثار سخرية المؤرخين منهم كإبن كثير الذي قال عنهم: “وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوّع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم”. وقد تفرقوا إلى أزيد من ثلاثين فرقة نتيجة لهذا السبب. هذا الذي حدث مع خوارج التاريخ لازال يتكرر ويعيده التاريخ نفسه جذعاً مع خوارج الحاضر الذين تناحرت العديد من جماعاتهم فيما بينها وتتفتت الفرقة الواحدة منها إلى فرق كما هو كان عليه الحال من الجماعات التي ظهرت في الجزائر في تسعينات القرن الماضي، وكما هو عليه حال داعش وبوكو حرام الذين ترد بين الفينة والفينة أخبار إعدام مجموعات من أتباعهما بسبب فتنة داخلية نشأت بينهم والأمثلة على هذا كثيرة من واقع هذه الحركات.
- تحوّل الكثير من فرقهم إلى عصابات صغيرة وقطاع طرق يعيشون في البوادي على النهب نظراً لانعدام توازن القوة بينهم وبين جيوش الدولة المسلمة، وهو ما تجسد فعلاً في التاريخ الإسلامي حيث انقلبت أغلب الفرق المنبثقة عن الخوارج إلى قطاع طرق ينهبون القوافل ويغيرون على القرى والمدن لتأمين عيشهم، ويعيد التاريخ نفسه مع حركات الجهاد المعاصرة حيث تحولت حركات من قبيل جماعة أنصار الشريعة وجماعة الموقعون بالدم في الصحراء الافريقية وغيرها من الجماعات إلى عصابات قطع طريق بمعنى الكلمة تختطف الأبرياء وتطلب فديات من أجل إطلاق سراحهم، وفقدوا أي رسالة لهم في المجتمع وانبتروا عن الأسباب التي دعت إلى ظهورهم من الأساس.
بالإضافة إلى ما ذكرنا من أسباب تاريخية ومنهجية قادت ولازالت تقود كل فكر متطرف إلى الزوال والاضمحلال، فإن هناك جملة أخرى من الأسباب التي عادة ما تقود إلى اضمحلال الجماعات المتطرفة وانفكاك عراها، ومنها:
- القضاء على القائد أوالمؤسس وموت الفكرة معه. كحال تنظيم القاعدة بعد مقتل أسامة بن لادن، حيث عجز الظواهري على ملئ فراغ كاريزيما المؤسس، وبالتالي خفت التنظيم وقلت نشاطاته بشكل يوحي بقرب نهايته.
- الاقتناع بالحوار والمفاوضات مع الحكومة، كما كان عليه الحال في مصر والجزائر وتركيا.
- الاحباط من تحقيق أي نجاح وبالتالي الاندثار.
- القضاء عليهم عسكرياً من طرف أجهزة الدول.
- التحول إلى النشاط السياسي.
إن الدرس الغريب من المقارنة التاريخية بين الحركات المتطرفة قديماً وحديثاً على الأقل في السياق الإسلامي تثبت أنه لم يسجل التاريخ نجاحاً لأي من هذه الحركات في تحقيق أهدافها، ولو بأي شكل من الأشكال، بل دائماً ما تزيد الأوضاع سوءاً بثوراتهم، كما لم تغير أي دولة من الدول التي تداولت على حكم العالم الإسلامي من نهجها السياسي كاستجابة لثورات الخوراج أو الجماعات المتطرفة الحديثة. وهو ما يطرح على دعاة هذا الفكر سؤال الجدوى من قناعاتهم ومن حركاتهم، مادام أن التاريخ يشتغل ضدهم.