إنّ النّاظر في “المعجم المفهرس لألفاظ القرآن” يجد أنّ كلمة “البلاغ” وردت في القرآن الكريم إحدى عشرة مرّة، في تسع سور قرآنية، إذ تكررت في سورتي المائدة والنحل، وقد توزعت بين القرآن المكي والمدني بالتساوي تقريباً، إذ ذكرت في القرآن المكي خمس مرات في أربع سور قرآنية، وذكرت في القرآن المدني ست مرات في خمس سور قرآنية، وقد وردت في أول سورة مكية حسب ترتيب المصحف في سورة النحل في موضعين في قوله تعالى” فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” (سورة النحل/35)، وفي قوله تعالى “َفإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ”(سورة النحل/82)، ووردت في أول سورة مدنية حسب ترتيب المصحف في سورة آل عمران في قوله تعالى فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (سورة آل عمران/20).
وهذا الجهد الاستقرائي يبين بما لا يدع أي مجال للجدل أنّ وظيفة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ تنحصر في “البلاغ المبين”، و”المبين” تعني أن يتسم “البلاغ” بالوضوح والصراحة، وفي هذا إشارة وأي إشارة إلى أنّ عرض الإسلام يجب أن يكون بلغة العصر، وفق ذهنية العصر، وتلك هي وظيفة ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،” قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (سورة يوسف/108)، و”خطاب البلاغ” هو الطريقة النبوية المثلى لعرض الإسلام على العالمين، ومن إيجابياته ـ وكله إيجابيات ـ أنّه بمثابة قوة ناعمة تقضي على تشويهات الدّاخل وشبهات الخارج، وعندها يعرف “الدّاخل” حقيقة دينه فيزداد إيمانا على إيمانه، ويعرف “الخارج” حقيقة الإسلام فتخف حدّة إعراضه وتزداد وتيرة إقباله، و”خطاب البلاغ” هو الحال المرتحل حقّا، ما إن يختم حتى يشرع في ختمة أخرى، وهذا هو “خطاب البلاغ” ما إن يُنهي عرض الإسلام حتى يشرع في عرضه مرّة أخرى، فـلا يعرف اليأس إليه سبيلا، ولا الملل إليه طريقاً، ولا يبالي بزهد “الداخل” ولا مبالاته، ولا بإعراض “الخارج” ومؤامرته.
ويجد المرء أنّ كلمة “البلاغ” التي ذكرت في القرآن الكريم إحدى عشرة مرّة، في سبعة مواضع قرآنية منها يُوضّح البيان الإلهي أنّ مجابهة التّولي والإعراض والتكذيب تكون بـ”البلاغ” و”البلاغ” وحده، ففي خمسة مواضع قرآنية يُوضّح البيان الإلهي أنّ مجابهة التّولي تكون بـ”البلاغ”، نجد ذلك في قوله تعالى” فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ”ﱠ(آل عمران/20)، وفي قوله تعالى” وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” (المائدة/92)، وفي قوله تعالى ” فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” (النحل/82)، وفي قوله تعالى:” قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” (النّور/54)، وفي قوله تعالى:” وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” (التغابن/12)، وفي موضع قرآني واحدي ُوضّح البيان الإلهي أنّ مجابهة التكذيب تكون بـ”البلاغ” و”البلاغ” وحده، وهو قول الله تعالى: “وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ”(العنكبوت/18)، وفي موضع قرآني واحد يُوضّح البيان الإلهي أنّ مجابهة الإعراض تكون بـ”البلاغ” و”البلاغ” وحده، وهو قول الله تعالى “فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ” (الشورى/48)، فهذه النّصوص القرآنية تبيّن تبياناً قطعياً لا تبياناً ظنياً أنّ مجابهة التّولي والإعراض والتكذيب لا تكون إلا عبر آلية “خطاب البلاغ”، وكلّ آلية غير آلية “خطاب البلاغ” فهي مناقضة للقرآن مخالفة لمنهج النبي العدنان.
وأمّا في المواضع القرآنية الأربعة الأخرى؛ ففي الموضع القرآني الأول وردت كلمة “البلاغ” لتبيّن للعالمين أنّ الدّعاة إلى الله لا يبتغون الرّيبة في النّاس، وإنّما وظيفتهم “البلاغ” ولا علاقة لهم بما وراء ذلك، فالله تعالى يقول: “مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ”(المائدة/99)، وابتغاء الرّيبة في النّاس من سوء الظن بهم، ولواء الدعوة إلى الله لا يحمله إلا الذين يُحسنون الظن بالنّاس .. الذين يلتمسون الأعذار للنّاس، وأمّا الاشتغال بما يُبدي النّاس وما يكتمون فهو من الافتيات على الله تعالى، وتلك هي آفة دعاة التكفير، وفي الموضع القرآني الثاني وردت كلمة “البلاغ” لتنادي في المتنطعين المتشددين أنّ الدنيا “دار بلاغ” وأنّ الآخرة “دار حساب”، وأنّ وظيفة الدعاة إلى الله “البلاغ” ووظيفة الله تعالى “الحساب”، وإنّها لجرأة وأيّ جرأة أن يفتات أشباه الدعاة على الله تعالى ويتولون “الحساب” كأنهم وكلاء الله في الأرض! قال الله تعالى “وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ”ﱠ(الرّعد/40)، وفي الموضع القرآني الثالث وردت كلمة “البلاغ” لتقطع دابر المتحجّجين بالقدر ـ وما أكثرهم ـ من الذين يُعلّقون ضلالهم العقدي أو انحرافهم السلوكي على مشجب القدر، وأنّ الواجب على ورثة الأنبياء الإعراض عن مثل هذه السفسطات والتركيز كلّ التركيز على فريضة “البلاغ”، وصدق الله إذ يقول: “وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” ﱠ(النحل/35)، وفي الموضع القرآني الرّابع وردت كلمة “البلاغ” مُطلَقة لتؤذن في الناس أنّ وظيفة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وورثته من بعده تنحصر في “البلاغ” وفي “البلاغ” فقط، وعندها لا يتعدّى الرويبضة من دعاة التكفير ومشتقاتهم طور “البلاغ” بذريعة الدعوة إلى الله، والغيرة على محارم الله، وفي هذا الصدد يقول الحقّ تعالى:” وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (يس/17).
والحقّ أنّ البعد عن “خطاب البلاغ” والغرق في”خطاب الدفاع” له آثار كارثية على حاضر الإسلام ومستقبله، لأن “خطاب الدفاع” يغرق في الرد على تشويهات الداخل وتفنيد شبهات الخارج، ويدخل في دوّامة من الجدل لها أول وليس لها آخر، وعندها تتحوّل بوصلة الدعاة إلى الله من “البلاغ” إلى “الدفاع”، وتغرق مسيرة الدعوة إلى الله في طوفان “الدفاع”، وتدخل مخابر “الشبهات المفتعلة” على الخط لتعيش أزهى مواسمها التجارية، وعندها تتعثّر مسيرة “البلاغ” وينتعش سوق “الدفاع” ينفخ أواره “الحماس الأعمى” و”الغيرة الزائفة” على حرمات الله، ومقدسات الإسلام، فأين خبراء “شراك المنديل الأحمر” يُحذّرون النّاس من الوقوع في أحابيله وعندها وعندها فقط يُحصّنون مسيرة “البلاغ” حتىّ تُحقق أغراضها، والحقّ أنّ كلّ جهد دعوي لا يُعزّز حظوظ “البلاغ” يُخشى أن يكون أُحبولة من أحابيل “الخارج” لأنه يصرف النّاس عن أولوية الأولويات وهي عرض الإسلام على العالمين.
و”خطاب البلاغ” يقوي جانب العمل و”خطاب الدفاع” يقوي جانب الجدل فيتحول الإسلام إلى نموذج نظري يُمزّقه الصخب لا إلى نموذج عملي يُزيّنه السلوك، لأنّ “خطاب الدفاع” كالأضواء الكاشفة يُريك مايريد أن يُريك، ويُوجهك إلى الزّاوية التي يشاء، وعندها لا تعرف حقيقة المكان، وربما ـ وهو الأخطر ـ أن تعرف المكان معرفة مشوهة وغير حقيقية، وتلك هي آفات الشحنة الانفعالية التي يحملها “خطاب الدفاع” يثبت الصورة الجزئية، وفي هذا الخضم يكبّر ما حقه التصغير ويُصغّر ما حقه التكبير، وإذا بانت هذه الحقيقة فإن الذود عن “خطاب البلاغ” ذود عن الإسلام، لأنّه يثبت الصورة الشاملة للإسلام، ويُعطي كلّ زاوية حقّها من الإنارة، وإن تعجب فعجب أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ينادي في النّاس أنّ رسالة الإسلام يحملها “خطاب البلاغ” و”دعاة التكفير” يصرون إصراراً أنّ رسالة الإسلام يحملها “جهاد الطلب”، وما”خطاب الدفاع” إلا إحدى تجلياته المشؤومة.
*الأستاذ أحمد رشيق بكيني. مدير المركز الإسلامي، سطيف. الجزائر