كان من نتائج حادثة التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وقوع شرخ عميق وانقسام كبير في معسكر الإمام علي؛ إذ إنّ طائفة من معسكره أنكرت عليه قبول التحكيم وقرّرت اعتزاله أو الخروج عليه، ولا تعنينا التفاصيل التاريخية لهذه الحادثة المفصلية في التاريخ الإسلامي، وإنما الذي يعنينا هو: كيف تجرأت هذه الطائفة على مخالفة الإمام علي والإنكار عليه؟ ومن نافلة القول أنّ قراره قبول التحكيم لم يكن قراراً فردياً فوقياً بل كان قراراً شورياً جماعياً، “وعلي بن أبي طالب ـ كما قال ابن كثير ـ خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله عزّ وجل”، ورغم كلّ هذا لا يجدون غضاضة في اعتزاله أو الخروج عليه.
والحق أنّ الجراءة على أهل الفضل وعدم احترامهم هو الذي أدّى إلى ما أدّى إليه، وإلا كيف يقولون: لم حَكَّمَ في دين الله؟! لا حكم إلا لله! وما إلى ذلك من المقولات التي يلوكها أحفادهم، ويغاضبونه ولا يدخلون معه الكوفة، وهم يعلمون كما قال عبد الله بن عباس في مناظرته لهم أنّ الإمام علي أعلمهم بتأويل القرآن، “جئتكم من عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله”، وهذا الدّاء العضال الذي أعيـى العلماء الربانيين، لا يزال إلى يوم الناس هذا ينتشر في أوساط المجتمع الإسلامي، ولا يزال إلى يوم الناس هذا ينخر جسم الأمة الإسلامية، ويتسلل من جيل إلى جيل، وينتقل من عصر إلى عصر، وما دعاة التكفير اليوم إلا أنف الأمة الأجدع، الذي لو تخلّق بخلق أن يعرف لأهل الفضل قدرهم ومكانتهم، لما بُتر من الجماعة كما يُبتر العضو الموبوء، ولما مرق من الدين كما يمرق السهم من الرّمية.
ودعاة التكفير تراهم يسفّهون كلّ المراجع الدينية، ولا يلتفتون إلى مقرّرات المجامع الإسلامية، ويسخرون من جميع المؤسسات العلمية، ولو قالوا: “هم رجال ونحن رجال” لهان الخطب، ولكن الداهية الدهياء أنهم يردّدون في نواديهم: “هم عملاء ونحن علماء”، وإذا وصل الأمر إلى الطعن في الأدلّاء على الحق، فمن يدل النّاس على الحق؟! ولا ريب أنّ الطعن في القيادة الفكرية للأمة مخطط مشبوه، يُثير العديد من علامات الاستفهام، لأنه يؤدي إلى فقدان الثقة بين الأمة من جهة وقيادتها الفكرية من جهة أخرى، وعندها تضيع الأمة في بيداء التيه الفكري، وتهوي في مهاوي الشذوذ، وتسقط في أوحال الضلال، وهذا المخطط المشبوه لا يصرف الأمة عن سبيل الهدى وطريق الرّشاد فحسب، وإنما يستنزف كلّ مقدّراتها وطاقاتها فلا تعرف إلى الشهود الحضاري طريقاً.
ومهما يكن من أمر فإنّ الجراءة على أهل الفضل وعدم احترامهم، يدل دلالة بيّنة على غياب الأخلاق وضعف التزكية، فدعاة التكفير أحوج النّاس إلى أخلقة سلوكهم وتزكية أنفسهم، ولدقة هذه المسألة غابت عن الأذهان في خضم تحليل الظاهرة التكفيرية، لأنّ دعاة التكفير ما سقطوا هذه السقطة من قلة في العبادة، فقد تحدّث النّاس عن اجتهادهم في العبادة، وما سقطوا هذه السقطة من نقص في العلم، فالكثير منهم كانوا من أوعية العلم، وإنما سقطوا هذه السقطة من ضعف في التزكية، فجراءتهم على أهل الفضل وعدم احترامهم سارت بذكرها الركبان، والجراءة على أهل الفضل وعدم احترامهم من أدواء القلوب المهلكة، التي هي خليط من الأدواء القلبية يشق فرزها ويصعب تصنيفها؛ فهي مزيج من العجب، والغرور، والتكبر، وحب الظهور … إلخ.
والمرء عندما يسمع ويرى فظاعات دعاة التكفير يدرك لماذا كان الأساتذة والمشايخ يردّدون بمناسبة وغير مناسبة: “اجعل علمك ملحاً واجعل أدبك طعاماً”، “اجعلوا الفضيلة ـ كما قال محمد البشير الإبراهيمي ـ رأس مال نفوس تلامذتكم واجعلوا العلم ربحا”، ولا مراء في أنّ طريق الأدب وسبيل الفضيلة هو التزكية، والتزكية من أهم وظائف الرسل، وهي أحد أسس البعثة المحمدية، وعليها مدار صلاح الفرد والمجتمع، قال الله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (سورة البقرة/129)، وقال أيضا: ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (سورة البقرة/151)، وحقيقة التزكية تطهير النفس الإنسانية من كلّ الآفات والأمراض الباطنة، ويكون لذلك آثاره وثمراته على الجوارح كلّها، وصدق الله العظيم إذ يقول( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (سورة الشمس/09ـ10).
ومما لا يخفى على أحد أنّ التذكير والتزكية والتعليم هي المحاور الأساسية للرّسالة الخاتمة، مصداقا لقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (سورة الجمعة/02)، وإذا كان من كتم داءه قتله ـ كما تقول العرب ـ فإن صراحة العلاج تقتضي القول أنّ محور التذكير والتعليم أخذ قسطا وافرا من العناية والاهتمام، وأما محور التزكية فإنه لم يأخذ حظه من العناية والاهتمام، وربما أُبعد عن دوائر العناية والاهتمام، والجماعات الدعوية الحديثة والمعاصرة تتحمّل القسط الأكبر من مسؤولية إبعاد التزكية عن مجالات العناية والاهتمام، والحقيقة أنّ الكثير من المصنفات التي اعتنت بالحديث عن التزكية شوهت التزكية، وخلطت ـ وللأسف الشديد ـ الغث بالسمين، ولكن هذا الأمر لا يعفي الجماعات الدعوية الحديثة والمعاصرة من تحمل المسؤولية، لأنّ الواجب يقتضي تمييز الغث من السمين، وأن يأخذ المرء ما صفا ويدع ما كدر، بدل اللجوء إلى أيسر الطرق وطرح الغث والسمين.
إنّ آفات دعاة التكفير لها أول وليس لها آخر، والنظرة المتأنية الفاحصة لا تتردّد في القول أنّ آفة آفتهم ضعف التزكية، والمشكلة أنّ هذه الآفة لم يُلتَفت إليها عند تحليل الظاهرة التكفيرية، ولهذا فإن الالتفات إليها والعناية بها من أوكد الواجبات، ولو رزق دعاة التكفير نصيبا من التزكية لرأيت احترام أهل الفضل، وللمست حسن الأدب مع النّاس، ولشاهدت الإصرار على التماس الأعذار لهم … إلخ، ولكن هاهي الأمة تتجرّع مرارة ضعف التربية الرّوحية، فهل آن الأوان أن ندرك أنّ إهمال التزكية هو البذرة الخبيثة لشجرة التكفير.
أحمد رشيق بكيـنـي
رئيس المركز الثقافي الإسلامي ـ سطيف ـ الجزائر