في حديث عجيب رواه حذيفة عن رسول الله عليه وسلم قال، قال رسول الله ” إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى رئيت بهجته عليه، وكان ردئاً للإسلام، غيّره إلى ماشاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك، قال: قلت يانبي الله!! أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال: بل الرامي”.
تبرز قوة الحديث من سنده القوي وتعدد رواته فقد رواه البزار في مسنده، والهيثمي، وابن حبان في صحيحه، وأبو يعلى في مسنده، والطحاوي في ” شرح مشكل الآثار” والهروي في ” ذم الكلام وأهله” وابن عساكر في ” تبيين كذب المفتري” وقال ابن كثير عن سنده ” هذا إسناد صحيح” وله صيغة أخرى من حديث عن معاذ ابن جبل رواه كل من الطبراني ويعقوب بن سفيان وابن أبي عاصم والهروي وأبو القاسم الأصبهاني.
يكشف هذا الحديث عن ظاهرة غريبة عن الأمة الإسلامية تزايد شررها في الأربعين سنة الأخيرة مع استقواء الحس الديني في ربوع العالم الإسلامي، فالحديث يتحدث عن حالات من الناس المتدينين من المؤكد أن كل منّا قابل بعضهم أو سمع عنهم في مجتمعه. هؤلاء الناس شهدت حياتهم تقلبات فكرية وروحية انطلقت بتدينهم ثم بدايتهم في تحصيل العلم الشرعي وشغفوا بالقرآن الكريم، حتى باتت أنوراه تلوح عليهم -كما وصفهم الحديث (حتى رئيت بهجته عليه)- حتى عرفهم الناس بالتقوى وبنور القرآن الذي يرتسم على وجوههم من كثرة تلاوتهم له ومخالطتهم لآياته، كما وعرفهم الناس بشدة حماسهم للدين ودفاعهم عنه وعن حماه -كما وصفهم الحديث (وكان ردئاً للإسلام)-.
لكن بعد كل هذا التدين الذي عرفوا به والتقوى التي يحرصون عليها في دقائق أيامهم ومظهرهم، تحدث للناس فيهم في مرحلة ما بلبلة واضطراب، نظراً لانحراف شديد يصيب بعض هؤلاء في فهمهم للقرآن الكريم الذي خالطوه سنيناً طويلة، يصف الحديث الشريف لحظة التحول هذه في قول النبي الكريم – غيره إلى ما شاء الله- فالتغير الذي يحصل لهؤلاء ليس على مستوى مظهر تدينهم أو حفظهم للقرآن الكريم، أو على مستواهم العبادي الظاهري، بل على مستوى فهمهم وتأويلهم لآيات القرآن الكريم، اغتراراً منهم بكل ما سبق منهم من تدين وعبادة وقربى مع القرآن الكريم، وأن ماكان لهم مع القرآن الكريم يكفيهم لأن يفهموا آياته ويتكلموا في معانيها، وإن لم يتوفر لهم من العلم ما يمكنهم من ذلك من مناهج الاستنباط وعلوم القرآن، ونتيجة لذلك يخرجون بجملة من الأفهام والاستنباطات المنحرفة التي تتعارض تماماً مع روح القرآن الذي واضبو على تلاوته، فيعمدون إلى تكفير الناس تنزيلاً منهم لظواهر بعض الآيات على واقع المسلمين دون إدراك لمعانيها الحقيقية وتأويلاتها الكثيرة التي طورها علماء الإسلام عبر القرون الماضية. لذلك يرمي بعضهم جاره بالشرك – كما قال الحديث- ويرمي آخرون مجتمعهم بالبدعة، وحكوماتهم بالكفر، ومن ثم يعلنون الجهاد وحمل السيف لتطبيق ما فهموه من كتاب الله حسب فهمهم ولتقويم الانحراف الذي تراه أعينهم ولا تراه أعين الناس، وكلما ناشدهم أو ناقشهم أحد ازدادوا عناداً وغروراً لأن مفهوم الدين بات في أذهانهم هو فهمهم الحصري له، وبات التشكيك في فهمهم تشكيكاً في القرآن الكريم ذاته، لذا يطلقون تهم التكفير والتبديع حتى وفتاوى القتل على كل من يخالفهم هذه الأفهام والاستباطات، ولعل هذا المرض يتجاوز في الكثير من حالات هؤلاء حدود تفسير آيات القرآن والحديث إلى فهمهم لمسائل السياسة والاجتماع، فمن خالف فهمهم لأمور السياسة فقد خالف روح الدين الذي بات حسبهم رديفاً لفهومهم واختياراتهم، وقد رأينا في بدايات ظهور داعش في العراق وسوريا حالات الإعدام لمجرد عدم ترديد شعارات داعش السياسية، إذا بات عدم ترديد شعار ” دولة الإسلام باقية” الذي كان يتغنى به الدواعش في أيامهم الأولى دليلاً كافياً عن الخروج من الدين، ودليلاً كافياً لاستباحة دم من يرفض، لأن الدين هم وهم الدين حسب فهومهم.
يضعنا هذا الحديث أمام تحليل نبوي لظاهرة التطرف التي فتكت بالمجتمع المسلم سنوات قليلة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، متمثلة في حركة الخوارج التي جسدت حرفياً المراحل التي عددها الحديث نحو ولادة المتطرف والفكر المغالي، كما ويضعنا الحديث أمام تحليل دقيق لما هو عليه حال المسلمين اليوم من تفتّق التطرف من كل جنبات العالم الإسلامي في العقود الأربع الأخيرة، وتزايد وتيرة التطرف والمغالاة في الدين، من طرف أناس زاد تدينهم عن حد الممارسة التعبدية التربوية للروح إلى حد التنطع والغرور، ومن ذم التطرف والولغ في الدماء الحرام.
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.