إنّ هجر المعاني القرآنية من أخطر طبقات هجر القرآن الكريم، ولهذا وجب الالتفات إليها، والاهتمام بها، والتحذير منها، وشكوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هجر القرآن الكريم تشمل كلّ طبقات الهجر على اختلاف الزمان والمكان، قال الله تعالى )وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا( (سورة الفرقان/30)، وخطورة هجر المعاني القرآنية تكمن في أنها تُفضي إلى تحريف الحمولة الدلالية للحقائق الشرعية، ولا يزال خرق هجر المعاني القرآنية في اتساع حتى تُصبح الأمة على دين غير دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهل دين دعاة التكفير هو دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟! إنّهم يحشون الحقائق الشرعية حشوا بمعاني يُنكرها القرآن، ولا يعرفها أهله، فيقعون في تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهذه المعاول الثلاثة هي أسلحة دعاة التكفير للعبث بالحمولة الدلالية للحقائق الشرعية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: “يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم” (متفق عليه).
وإذا ذُكر دعاة التكفير ذُكر الجهاد، فهو الشعار الذي يرفعونه، وهو الدثار الذي يتدثّرون به، والجهاد من الحقائق الشرعية ـ بل هو ذروة سنام الإسلام ـ الذي أفرغه دعاة التكفير من كلّ معانيه القرآنية، وعقد مقارنة عابرة بين جهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجهاد دعاة التكفير تُبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنّ “الجهاد التكفيري” لا علاقة له بـ”الجهاد المحمدي” لا من قريب ولا من بعيد، وتُبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنّ “الجهاد التكفيري” أُفرغ إفراغا من كلّ معانيه القرآنية، فـهو لم يعد حقيقة شرعية وإنما أصبح حقيقة تكفيرية، وأُفرغ من كلّ المعاني القرآنية وشحن بكلّ المعاني الجاهلية، ونسبته إلى الإسلام محاولة قاتمة للإجهاز على الإسلام وأهله. إنّ “الجهاد التكفيري” يجب أن يُنسب إلى دين دعاة التكفير لا أن يُنسب إلى دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاة التكفير هم وحدهم من يتحمّل جريرة فظاعات “الجهاد التكفيري” التي أقضت مضاجع الإنسانية، وكانت وبالا ـ وأيّ وبال ـ على حاضر الإسلام، ومستقبل رسالته، وحيوية دعوته، ومصير أُمّته.
والحقّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يُخبرنا أنّ الجهاد ذروة سنام الإسلام، “وذروة سنامه الجهاد” (رواه الترمذي)، فإنّ هذا الخبر النبوي يحتاج إلى وقفات متأنيات، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم يخبرنا أنّ أعلى ما في الإسلام وأرفعه الجهاد، والجهاد المسلح الذي يعرفه الإسلام ولا يعرف غيره هو جهاد الدفع، ومن نافلة القول أنّ جهاد الدفع يعني ردّ العدوان وهو مما اتفقت عليه كلّ الأمم والشعوب،وأجمعت عليه كلّ الشرائع والقوانين، وهو استثناء لا أصل، وشذوذ لا قاعدة، “والإسلام ـ كما قال محمد البشير الإبراهيمي يعتبر السلم هو القاعدة، والحرب شذوذ في القاعدة”، فهل يصح في الأذهان أن يكون أعلى ما في الإسلام وأرفعه استثناء؟ وهل يقول عاقل أنّ ذروة سنام الإسلام شذوذ؟ ولكن هاهي الأمة تتجرّع مرارة هجر المعاني القرآنية التي أدّت إلى تحريف الحمولة الدلالية للحقائق الشرعية.
والجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام هو الجهاد بالقرآن، فالجهاد بالقرآن أعلى ما في الإسلام وأرفعه، لأن الله فرض على الإنسان أن يجاهد نفسه بالقرآن حتى تستقيم على القرآن، وأن يجاهد غيره بالقرآن حتى يستقيم على القرآن ، وأن يجاهد كلّ مجال من مجالات الحياة بالقرآن حتى تستقيم على القرآن، قال الله تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (سورة الفرقان/52)، والحديث عن جهاد الكافرين بالقرآن هو حديث ـ ولا شك ـ عن جهاد من دونهم بالقرآن، لأن العلة مشتركة وهي مخالفة منهج الله تعالى، فحيثما وُجدت مخالفة منهج الله تعالى وجب الجهاد بالقرآن، ومخالفة منهج الله تعالى أعلاها الكفر وأدناها اللمم، فمتى يستوعب دعاة التكفير أنّ الجهاد بالقرآن به يكون صلاح الإنسان، وأنّ الجهاد بالسنان لا يكون إلا لردّ العدوان؟
ومشكلة المشكلات أنّ دعاة التكفير هجروا الجهاد بالقرآن، فشاع المنكر وانكمش المعروف، وظهر الفساد في البر والبحر، وجعلوا الجهاد بالسنان وسيلة للعدوان لا وسيلة لردّ العدوان، فأفسدوا دنيانا، وشوهوا ديننا، وذبذبوا أبناءنا، وأغروا بنا أعداءنا، و”قد سمى الله تعالى ـ كما قال عبد الحميد بن باديس ـ الجهاد بالقرآن الكريم جهادا كبيرا، وفي هذا منقبة كبرى للقائمين بالدعوة إلى الله بالقرآن العظيم، وفي ذلك نعمة عظيمة منّ الله عليهم حيث يسّرهم لهذا الجهاد حتى ليصح أن يسموا بهذا الاسم الشريف: مجاهدون”، ولم يسم الجهاد بالسنان جهادا كبيرا، بل إنّ “الإسلام كما قال محمد البشير الإبراهيمي في أعلى مقاصده يعتبر الحرب مفسدة لا ترتكب إلا لدفع مفسدة أعظم منها”.
وصرف النّاس عن الجهاد بالقرآن صرف لهم عن إصلاح أنفسهم، وإصلاح غيرهم، وإصلاح مجالات حياتهم، والقول بأنّ الجهاد المسلح وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله افتراء على الله، وتشويه لدينه، وصدّ عن سبيله، بل هو وسيلة من وسائل ردّ العدوان، يُلجأ إليه بعد خيبة كلّ المساعي، وفشل كلّ الوسائل، فيكون الجهاد المسلح لردّ العدوان في هذه الحالة الوسيلة التي يُقر بها الإسلام كارها، ويقبلها مضطرا، إذ أنّ شأن الدماء في الإسلام عظيم، والجهاد بالقرآن هو الوسيلة الوحيدة “الحصرية” للدعوة إلى الله، وتزكية الفرد، وإصلاح المجتمع. وحمل غير المسلمين على الإسلام وحمل المسلمين على التدين والإلتزام لا يُبنى إلا على أساس الإقناع، والإقناع لا يُتوسل إليه إلا عن طريق الجهاد بالقرآن، وإذا توسلنا إليه بالأخرى كان ولا مراء إكراها، والإكراه لا يُزكّي فردا، ولا يُصلح مجتمعا، ولا يبني حضارة، وإثمه أكبر من نفعه، بل لا نفع فيه.
وإذا كان “الإسلام السياسي” هو تمويه الدعوات السياسية كما قال محمد الطاهر بن عاشور “بطلاء الأمور الدينية حتى لا يشك العموم في أنّ ما يدعونهم إليه هو من الدين ولا حظ فيه لنفوس طالبيه”، فإن “الجهاد السياسي” كذلك هو تمويه الدعوات الجهادية “بطلاء الأمور الدينية حتى لا يشك العموم في أنّ ما يدعونهم إليه هو من الدين ولا حظ فيه لنفوس طالبيه”، وهكذا بدل أن يُتخذ الإسلام وسيلة لـ “أسلمة الحياة”، ويُتخذ الجهاد وسيلة لردّ العدوان، وإذ بالإسلام والجهاد يُتخذان مطيّة لتحقيق أهواء أصحاب الشهوات السياسية، الذين لا يعرفون “الخطوط الحمراء” في سبيل الوصول إلى مآربهم وتحقيق مطامعهم، وإذا أرادت الأمة أن تسير في طريق “الشهود الحضاري” وذلك بالمحافظة على نفسها وصيانة دينها فالواجب أن تضرب على يد سفهائها الذين أعماهم “زخرف السياسة” بإعادتهم إلى جادة الإخلاص والصواب، وإرجاعهم إلى حظيرة السَّواد والجماعة.
ألا فليعلم من يهمه الأمر أنّه لا طريق إلى قوة الإسلام إلا عن طريق قوة الدعوة، ولا طريق إلى قوة الدعوة إلا عن طريق الجهاد بالقرآن، ويوم تخلت الأمة عن واجب الجهاد بالقرآن، ضعفت الدعوة، فكان أن ضعف الإسلام، فمتى يتبيّن لدعاة التكفير الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الدعوة، وعندها يُردّدون مع محمد البشير الإبراهيمي قوله: “وقد قام الإسلام على الدعوة، فقُوَّته يوم كان قويا آتية من قوة الدعوة، وضعفه يوم أصبح ضعيفا آت من ضعف الدعوة”.
أحمد رشيق بكيـنـي*
رئيس المركز الثقافي الإسلامي ـ سطيف ـ الجزائر