إنّ الجنوح إلى العنف السياسي من جماعات العنف السياسي لا يثير أيّ غرابة، ولا يطرح أيّ علامة استفهام، لأنّه ـ وكما يقال ـ “الشيء من معدنه لا يستغرب”، لكن أن تجنح بعض الجماعات التي تشتغل بالدعوة إلى العنف السياسي؟ فهذا الذي يُثير الغرابة، ويطرح أبحرا من علامات الاستفهام، ولا يخفى على أحد أنّ عناصر جماعات العنف السياسي الذين يهيمون في كلّ مكان زرفات ووحدانا خرجوا من رحم بعض الجماعات التي بدأت كحركات دعوية، والمشكلة كلّ المشكلة أنّ المنتسبين إلى بعض الجماعات الدعوية أعينهم على “الدولة” لا على “الدعوة”، ولكن أليس من التمويه الغادر أنْ تريد “الدولة” وتنادي في النّاس أنّني أريد “الدعوة”؟
إنّ المؤمن لا يُطبع على التمويه الغادر، فإذا أراد “الدولة” سلك طريقها جهارا، وإذا أراد “الدعوة” سلك سبيلها نهارا، ولكن أصحاب التمويه الغادر يعرفون حقّ المعرفة “أنّ أقرب الطرق إلى استمالة النّاس هو طريق الدين”، ولله درّ محمّد الطاهر بن عاشور إذ قال: “وشأن أهل الدعوات السياسية أنْ يتوسلوا لترويج أعمالهم بين العامة بالوسائل الاعتقادية لعلمهم بأنّ عقول العامة تقصر عن إدراك الأدلة العقلية وعن توسم عواقب الأمور، ويتوسلوا تلقيهم الأشياء المنسوبة إلى الدين بمزيد الاعتبار من دون تأمل ولا إقامة برهان لثقتهم بأنّ ما يجيء في الدين هو أمر مقطوع بصدقه سواء اطلعنا على دليله أو لم نطلع، فأصحاب الدعوة يسربون دعوتهم للعموم من مسارب الاعتقاد الديني”، وهكذا يركب أصحاب التمويه الغادر “سفينة الدعوة” للوصول إلى “مرافئ الدولة”.
والسؤال الذي يجب أن نتطارحه هو: لماذا خرجت جماعات العنف السياسي من رحم تلك الجماعات التي تنسب نفسها للدعوة؟ وإذا عرف المرء أنّ المنتسبين إلى جماعات العنف السياسي قد خرجوا من رحم بعض هذه الجماعات الدعوية، فإنّ الحقيقة الصادمة التي لا مراء فيها هي أنّ جذور العنف السياسي ماهي إلا امتداد لأدواء هذه الجماعات المدعية للدعوة، فإذا وقفنا على أدواء هذه العينة من الجماعات النتسبة للدعوة فقد وقفنا على جذور العنف السياسي، ولهذا فإن معرفة أدواء هذه الجماعات يساهم مساهمة فاعلة في تجفيف منابع العنف السياسي واستئصال جذوره، ولعل محمّد الغزالي أحسن من بيّن أدواء الجماعات الدعوية، إذ قال: “وأجدنـي مضطرا إلى تكرار الحديث عن الإسلاميين الذين يطول هتافهم للإسلام ولا يقدرون على إسداء يد معقولة له!! إنّ نصف هزائم الإسلام ترجع إلى رداءة خططهم، وضحالة فقههم، وغرورهم بأنفسهم”.
والحقيقة أنّ محمّد الغزالي أشار إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أنّ بعض الجماعات الدعوية من جهة تراهم يبكون على حال الإسلام وواقع المسلمين ومن جهة أخرى لا يُقدمون خدمة بها يُنقذون حال الإسلام، ولا يتحركون بالعمل للنهوض بواقع المسلمين، وهم يهتفون للإسلام ولكن في المقابل لا ينفعونه بشيء، وما ذكره محمّد الغزالي يشهد الواقع بصحته، ويؤيده أيّما تأييد؛ فهؤلاء تراهم يتحدثون عن المصائب التي رُزِئ بها الإسلام ولكن من قلّب الأمر تبيّن له أنهم أحد مصائب الإسلام، وهؤلاء يُكثرون من الحديث عن هموم الأمة ولكن من عرفهم على حقيقتهم عرف أنهم أحد هموم الأمة، والعجب أنهم يضعون صنيعهم في إطار “الإصلاح” ويذكرونه في عداد الانجازات، والحقّ أنّ المرء لم ير أيّ مشهد من مشاهد الإصلاح أو أثر من آثاره؛ فالفساد الأخلاقي يضرب أطنابه، والجرائم تنتشر كانتشار النار في الهشيم، والمجتمع أصبح مفرغة لكل الآفات الاجتماعية، وهو يفقد قيمه الإيجابية قيمة بعد أخرى، فعن أيّ “إصلاح” يتحدث هؤلاء النّاس؟!
ولا يقف محمّد الغزالي عند هذا الحدّ بل يتعداه ـ بصراحة قلّ نظيرها ـ إلى قضية هي من الأهمية بمكان عندما يُشير إلى أنّ “نصف هزائم الإسلام” يتحمّلها هؤلاء، وهذا يعني أنّ الضرر الذي ألحقته هذه الجماعات المنتسبة للدعوة بالإسلام أكثر بكثير ـ بل لا يُقارن ـ بالنفع الذي جلبته وقدّمته لهذا الدين، وهذا الأمر يتطلّب وقفة جادة تُراجع فيها هذه الجماعات الدعوية مسارها الدعوي، فهي تقول: أُريد إعادة الإسلام إلى حلبة الحياة، وإذ بمصرع الإسلام ـ وللأسف ـ يكون على يدها! وكيف لا؟ ونصف هزائم الإسلام كانت على أيديهم، وإذا كان الاعتراف هو الخطوة الأولى في طريق التغيير، فإنّ آفة هذه الجماعات الدعوية أنها لا ترى جناياتها على الإسلام إلا إنجازات، ولا ترى هزائمها إلا انتصارات، وتتخذ “مشجب” الداخل والخارج لتعلّق عليه كلّ إخفاقاتها.
ويرى محمّد الغزالي أنّ هناك ثلاثة أسباب رئيسية جعلت “نصف هزائم الإسلام” تعود إلى هؤلاء، وهذه الأسباب الثلاثة هي وراء خروج جماعات العنف السياسي من رحم بعض الجماعات الدعوية، فأول هذه الأسباب هو: “رداءة خططهم” وتلك مشكلة ما بعدها مشكلة لأنّ رداءة الخطط تعني أنّ المساعي المبذولة والجهود الـمُقدّمة مصيرها الفشل ومآلها البوار، ذلك أنّ الانجازات تُبنى على الخطط، فإذا كانت الخطط رديئة كانت الانجازات فاشلة، وإذا كانت الخطط مدروسة تكلّلت الانجازات بالنجاح، وأخطر شيء يُصيب الخطط في مقتل هو العجز عن ترتيب الأولويات، الذي يؤدي إلى الفوضى التي تضيع في خضمّها المنجزات الدعوية، ومن نظر إلى هذه الجماعات المنتسبة للدعوة عرف أنها أبعد ما تكون عن ترتيب الأولويات، أليس أولى الأولويات “الجهاد في النفس قبل الجهاد بالنفس”، أليس أولى الأولويات “التكوين قبل التمكين”، أليس أولى الأولويات “الإصلاح الفردي قبل الإصلاح الاجتماعي”، أليس أولى الأولويات … إلخ، وقضى “فقه السنن الإلهية” أنّ الذي يرى رداءة خططه يبادر إلى إصلاحها، والذي لايرى رداءة خططه يُبادر إليه اليأس، واليأس هو الشرارة الأولى في طريق العنف السياسي.
وثاني هذه الأسباب هو: “ضحالة فقههم” وهذه ـ والله ـ مصيبة المصائب، لأنّ ضحالة الفقه تلد فساد العمل، كما أنّ حسن الفقه يلد صلاح العمل، ولهذا فإنّ أخطر داء يصيب هذه الجماعات “ضحالة فقههم”، وعندها يفسد عملهم، وينحرف سيرهم، ويضل سعيهم، ويضيع هدفهم، والمشكلة أنّ كثيرا ما يُرزق الناس العاطفة الجيّاشة، والحماس الصادق، ولكن يعوزهم العلم وتنقصهم الكفاءة، فيفسدون أكثر مما يُصلحون، وقد يغتر الكثير من الناس وينخدعون بهذه العواطف الجيّاشة والحماس الصادق فيتأثرون بأصحابها ويندفعون إلى سلوك طريقهم، وتلك هي الفتنة عندما تُطلّ برأسها، فيفتتن بها ضعاف العقول والأفهام لأنّ المظاهر خدّاعة غرّارة، وضحالة الفقه تتجلّى أيّما تجلّ في إشاعة “روح الاستعجال” وخصوصا في أوساط جمهور الجماعات الدعوية، حتى إذا استبطأ هؤلاء “الجنّة” التي وعدوا بها ثارت ثائرتهم، وألقوا بأنفسهم في أتون العنف السياسي.
وثالث هذه الأسباب هو: “غرورهم بأنفسهم” وهذا الأمر لا يحتاج إلى تبيان فهو ظاهر للعيان فهؤلاء يحتكرون كلّ شيء! فهم وحدهم أصحاب الحكم الرّاشد، وهم وحدهم أصحاب الحلول الاقتصادية الناجعة، وبرامجهم وخططهم هي وحدها التي تُنقذ المجتمع وتنفث في روعه التقدم والازدهار، والحق أنّ داء الغرور من الأدواء القاتلة، والمؤمن تقوده الحقائق، والمغرور تقوده الأوهام، ولا يزال المغرور يتتبّع الأوهام حتى يلاقيه الموت، وتواجههه الحقيقة المرّة: لقد خسرت دنياك وآخرتك، وخرجت من الدّارين بخفي حنين، وآفة المغرور أنّ غروره يحمله على البقاء في دركات الخطأ والضلال، وإذا سمع نصيحة أو موعظة جعل أصابعه في أذنيه، والغرور جهل مركب من هوى وشبهة؛ الهوى يميل به عن الجادة، والشبهة تدفع به إلى الانحراف، ومن تتبّع حركة الخوارج حقّ التّتبع عرف أنّ بدايتها غرور ونهايتها خروج.
ومهما يكن من أمر فإنّ محمّد الغزالي وضع أُصبعه على الجرح، فينبغي على هذه الجماعات التي تنسب نفسها للدعوة أنْ تقف مليّا عند نقده، ويجب أن لا يتملّكها الغرور فتستنكف عن نصحه، والبدار البدار إلى علاج هذه الأمراض التي تنخر جسمها، ويتجرّع المجتمع مرارتها، ويدفع الإسلام ثمنها، إذ يكفي أنّها مسؤولة عن “نصف هزائم الإسلام”، وإذا كان هذا صنيعها .. فبأيّ حقّ تلوك حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مائة سنة من يُجدّد لها دينها” (رواه أبو داود)، ورحم الله القائل: فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإنْ كنت تدري فالمصيبة أعظم، والحذر الحذر في أن تقع هذه الجماعات المنتسبة للدعوة في شراك “فقه الاستفزاز” لتبقى الأمّة خارج “حلبة التاريخ” يُحدَّد مسارها ومصيرها، وعندها بدل أن تساهم هذه الجماعات في انتشال الأمة من أوحال الانحطاط، والتخلف، والتبعية … وإذ بخط سيرها وخطة عملها ينطق أنها قوارب هلاك لا قوارب نجاة.
أحمد رشيق بكيـنـي*
رئيس المركز الثقافي الإسلامي ـ سطيف ـ الجزائر