دار حرب…دار إسلام: داعي التجديد!

من قسم افتراضي, المقالات. منذُسنة واحدة.2019-09-04T12:23:13+03:0012:00 صباحًا الأحد 29 أكتوبر 2017 م / _29 _أكتوبر _2017 ه‍|

تعتبر الدور وأحكامها إحدى أهم الركائز الفقهية التي تستند عليها حركات العنف والجماعات المتطرفة في عالمنا الإسلامي بشكل عام، حيث تعمد هذه الجماعات إلى سلخ هذه الأحكام الفقهية من سياقاتها التاريخية، وتقوم بتنزيلها على واقع معاصر مختلف تماماً عن الذي وردت فيه. هذه الأحكام التي طورها الفقهاء المسلمون بكل ذكاء وفطنة كتفاعل لهم مع واقعهم السياسي والديني الذي عاصروه، وبالتي استجابوا بهذا الاجتهاد للقضايا الملحّة التي كانت تواجه المسلمين حينها. ولعل أول من استجاب لهذه الضرورة الفقهية والسياسية هو الإمام أبو حنيفة الذي يعدّ أول من وضع آلية سياسية وقانونية مستمدة من الفقه الإسلامي وأصوله لتحديد وجه العلاقة بين المجتمعات المسلمة وما يجاورها من مجتمعات، مستنداً في ذلك إلى ايحاءات واضحة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تشير إلى وجود فرق بين دار يسود فيها الإسلام ودار لا يسود فيها الإسلام كقوله تعالى:” وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا  فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ”(النساء: 92) وغير هذه الأية من الآيات التي تدل على وجود فرق بين دارين بناءاً على أساس الدين، وهذا خلافاً لما ذهب إليه محمد أبو زهرة وعبد الوهاب خلاف والزحيلي الذين أشاروا إلى أن قسمة الديار إلى ديار حرب ودار إسلام لا أصل له لا في القرآن ولا في السنة.

وقد عمل الصاحبان أبو يوسف وأبو الحسن على تطوير اجتهادات أبو حنيفة، وتداول العلماء بعدهما هذه المسألة بالكثير من التحليل والتفريع والتأصيل وأضاف بعضهم إلى القسمة الثنائية داراً ثالثة هي دار المعاهدة أو الموادعة التي يجمع بينها وبين المسلمين ميثاق وصلح، كما أضاف ابن تيمية داراً جديدة وهي الدار المركبة وهي الدار التي يغلب على سكانها المسلمين حاكم غير مسلم، وغير ذلك من الاضافات والاجتهادات الكثيرة في هذا الباب.

والمتمحص في تطور هذه المفاهيم في الكتب الفقهية يقف على حقيقة ناصعة وهي أن اجتهادات الفقهاء كانت استجابة لواقع عايشوه، وأن أحكامهم وفتاويهم في الباب تغيرت وتطورت بتغير الزمن والأحوال المصاحبة لذلك، وبالتالي ظهرت اجتهادات كثيرة واختلافات وإضافات كثيرة على آراء الفقهاء والمجتهدين الأوائل، وتطور النقاش من مجرد تخريج المناط أي تخريج الحكم على دار معينة أنها دار حرب أم دار الإسلام، إلى تحقيق المناط أي تطبيقه على الواقع ومناقشة ما على المسلمين القيام به في هذه الأحوال. ويلفت انتباهنا هنا مرونة الفقه الإسلامي في هذا الموضوع، ومن أدلة هذه المرونة ما ذهب إليه السادة الشافعية كالماوردي والشربيني و ابن حجر الهيتمي إلى أن  المسلمين إذا كانوا بأرض حرب وانحازوا في مكان وأمنوا على أنفسهم وأقاموا دينهم دون خوف ممن يقيمون بينهم، فإن تلك الأرض باتت دار إسلام، بالرغم من كونها جزءاً من أرض الحرب، بل وأفتى بعضهم بحرمة الهجرة منها ووجوب الإقامة فيها. ومن هذه المرونة الاجتهادية جاء اعتبار الإمام أبو يوسف للدار دار إسلام إذا ظهرت فيها أحكام الإسلام، وإن كان جلُّ أهلها من الكفَّار.

كما أن تعريف الحنفية لدار الحرب ودار الإسلام  يعكس هذه المرونة في الفهم والتنظير، حيث قالوا أن الدار تصبح دار إسلام إذا اجتمع فيها شرطان، وهما ظهور الإسلام -أو ما يسميه أبو الحسن الشيباني ظهور الإمام- أي يستعلن بها بأحكام الإسلام وشعائره مثل صلاة الجمعة و صلاة العيدين والآذان وغيرها من أحكام الإسلام، و الشرط الثاني وهو أن يأمن كل من بهذه الدار من مسلم وذمي بأمان الإسلام، وكلا الشرطين مرنين لدرجة من الممكن تنزلهما على واقعنا المعاصر دون حتى الحاجة إلى اجتهاد معاصر في المسألة. وكتدليل على الشرط الأول ساق الحنفية  دليلاً قوياً وهو أن رسول الله كان  يأمر جيوش المسلمين أن يكفوا عن أي قوم محاربين إذا روأ مسجداً في أرضهم أو سمعوا أذاناً في قراهم ومدنهم.

فكيف وهذا الحال ومع هذه المرونة الفقهية؛ لازال يفتي بعض المتنطعين ممن ينسبون أنفسهم إلى العلم الشرعي أن أحكام الدور لازالت على حالها، وينزّل ما ورد في كتب الفقه القديمة على ما استحدث في عالمنا المعاصر، ويجرأ على الفتوى بأن الدول الغربية دار حرب، وتنطبق عليها أحكام دور الحرب التي نُظِّر لها في قرون غابرة، دون أي وعي للواقع ودون ذرة إدراك لأن عصرنا هذا لم يعد يحكمه منطق الدور بل بات يحكمه منطق الدول، ومنطق القانون الدولي المعاصر، وانتقلت فيها البشرية من ثقافة القطيعة إلى ثقافة التعايش، حيث يعيش ما يزيد على 300 مليون مسلم في دول  غير مسلمة، ويتمتعون في أغلبها بكافة حقوقهم كمواطنين كاملين، دون أي خوف على دينهم، حيث باتت القوانين المحلية و القانون الدولي تحميهم كما تحمي غيرهم من الأقليات، على أن الكثير من المسلمين يستشعر الأمن والأمان على دينه في الدول الأوروبية مثلاً أكثر مما يستشعره في بلده الإسلامي، فإذا كان رسول الله يأمر بالكف عن أي قوم محاربين بمجرد أن مسجداً برز من بين عمران مدينتهم أو أذاناً سُمع يرتفع من شوراعهم، فما بالنا بالدول الأوروبية التي باتت تعج بالمساجد والمراكز الإسلامية، ويطبع فيها المصحف، وتؤسس فيها الجامعات الإسلامية، ويراس فيها المسلمون البلديات والوزارت، ويتمتع فيها المسلمون بحرية دينية يفتقدها الكثير من المسلمين في بلدانهم المسلمة.

من هذا المنطلق وأمام هذه التحولات السياسية والفقهية والفكرية بات من السخيف بل والخطير توظيف منطق دار الحرب ودار الإسلام على واقع العلاقات الدولية اليوم، أو محاولة فهم علاقة المسلمين بغيرهم من منظور هذا المفهوم. وقد استجاب الكثير من العلماء لهذه الحتمية وطرحوا مفاهيم جديدة تتعايش مع العصر منها مفهوم دار الاستجابة (دار الإسلام) في مقابل دار الدعوة، باعتبار أن العالم كله يُعتبر أمة محمد « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ »(الانبياء: 107) فقد جاء صلى الله عليه وسلم مخاطباً للعالمين جميعاً فبعضهم استجاب له وهذه أمة الإجابة، وبعضهم لازال في مرحلة الدعوة وهذه أمة الدعوة.كما طرح بعضهم مفهوم دار الإسلام في مقابل دار الشهادة التي يُشهِد المسلمون فيها غيرهم من غير المسلمين على أخلاقهم وتعاليم دينهم. هذه الاجتهادات التي أثرى بها فقهائنا هذا الموضوع تدل على أنه ليس هناك من مانع شرعي لإعادة تصور جديد لهذا الموضوع الفقهي بشكل يضع المسلم في سياق رسالة الرحمة التي جاءت لتقرّب لا لتقاطع وتألّف لا لتنفّر، وتسالم لا لتحارب.


* الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة