التسامح بين مقولة الحق والعدل

من قسم افتراضي, المقالات. منذُسنة واحدة.2019-09-04T12:26:59+03:0012:00 صباحًا الأحد 24 ديسمبر 2017 م / _24 _ديسمبر _2017 ه‍|

يعتبر مبدأ التسامح من أكثر المفاهيم تداولاً في العقود الأخيرة، نظراً لسيادة قيم العالمية من جهة ونظراً لتزايد حدة التعصب في بعض المجتمعات من جهة ثانية. ولأن كان هذا المصطلح كثير التداول إلا أنه كثير الالتباس والغموض في جهة دلالته اللغوية ومفاهميه الفلسفية.

فالتسامح في اللغة اللاتينة مشتق من لفظ  tolerantia التي تعني التحمّل، أي الضغط على النفس وتحمّل الآخر المخالف، ولا يبتعد معناه في اللغة العربية عن المفهوم اللاتيني حيث تربط أغلب المعاجم العربية مفهوم التسامح بمفهوم التساهل، والذي يعني التنازل عن بعض الحق والتساهل بإزاء تجاوز معين من طرف مخالف. وفي كلا التعريفين اللغويين اللاتيني والعربي يبرز معنى حمل النفس والضغط عليها لتقبّل الآخر والتسامح معه. لكن هل يتوافق مفهوم التسامح في القرآن الكريم مع المقتضى اللغوي، وما الفرق بين تسامح القرآن والتسامح في المفهوم الغربي؟

لاجدال أن التسامح في الغرب كمفهوم وكممارسة لم يُعرف إلا في فترات متأخرة جداً في تاريخ هذه المجتمعات، وتحديداً مع بداية عصر التنوير، وازدياد وتيرة فلسفة الشك وعدم اليقين في الذهنية الغربية، حيث ارتبط مفهوم التسامح بمفهوم الحق، أي بسؤال من له الحق من غيره، ومادام أن الجزم في الحق ليس متمكناً  وأن البت في صحة الاعتقادات الدينية ليس قطعياً فإن التسامح واجب، يعرب رائد فلسفة التسامح الغربي فولتير عن هذا الهاجس في كتابه : مقالة عن التسامح” بقوله :” التسامح نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، إننا جميعا من نتاج الضعف، كلنا هشون وميالون للخطأ، لذا دعونا نسامح بعضنا، ونتسامح مع جنون بعضنا بشكل متبادل”  كما يرى فولتير أن مدار التعصب هو الإقرار بامتلاك الحقيقة التي لا تعرف الخطأ ولا تقبل بالأخطاء فمتى انهدم هذا الإقرار بامتلاك الحقيقة تسرّب التسامح إلى الوجود، ويلخص هذا الرأي بقوله: “الخطأ له علاقة بالتسامح، والحقيقة لها علاقة بالتعصب.” ويؤكد هذه النزعة الغربية إزاء مفهوم التسامح ومنطلقاته الفيلسوف جون استيورات ميل، الذي يرى أنه من الطبيعي أن لا يتسامح المرء إزاء ما يأخذه المرء بجد، فالتسامح مقرون بالشك، أما التسامح في الأمور التي أقطع بها فلا تسامح فيها.

يعبر عن هذا المفهوم الشكي واحتمالية الخطأ كدافع لتبني التسامح إزاء الآخر فيلسوف العقلانية النقدية الألماني كارل بوبر في كتابه ” بحثاً عن عالم أفضل” حيث يقول: ” إن وجود الخطأ ينبغي أن يقودنا إلى الاعتراف بأخطائنا، ومن ثم بجهلنا وأننا لسنا معصومين من الخطأ، وهذا ما يؤكد الحاجة إلى التسامح والتسامح المتبادل بين البشر” ويلخص بوبر رأيه في ثلاث مبادئ أخلاقية تشكل الأساس لكل جدل عقلي حول مفهوم التسامح، هذه المبادئ هي:  مبدأ اللاعصمة، مبدأ الجدل العقلي و مبدأ الاقتراب من الحقيقة، وهي مبادئ ثلاث تعكس المنطلقات الفلسفية والدينية التي تأسست عليها مفاهيم التسامح في الذهنية الغربية. لذا تطور مفهوم والتسامح ونمى في ظل حالة ضعف التدين في أوروبا قبيل وبعد الثورة الفرنسية، يعكس ويل ديورانت هذه الفكرة في ثلاث مواضع مختلفة من موسوعته” قصة الحضارة” حيث يقول: “يولد التعصب مع انبثاق اليقين، وينتعش التسامح مع ضعف الإيمان”، يثمّن استيورات ميل أيضاً هذه الملاحظة بقوله : “الملاحظ أن التسامح لا يسود إلا حيث يسود عدم الاكتراث الديني” بينما يعبر الفيلسوف البريطاني شسترتن عن هذا المفهوم بقوله “التسامح فضيلة رجل بلا يقين”.

يتضح من جملة المقولات والنقولات السابقة أن مفهوم التسامح في الثقافة الغربية مرتبط أساساً بعدم اليقين في المعتقدات الدينية السائدة، مع قيام فرضية الإيمان بها، فكل فيلسوف متسامح هو في داخله غير مرتاح للدين، ويعيش حالة شك منهجي في أسسه، أو هو ملحد كافر به من الأساس، لأن الدين يذكّر باليقين واليقين ينفي التسامح.

هذه الحقيقة انتبه لها الناقد والتحرري البريطاني اللامع توماس بيين الذي تجاوز هذه الإشكالية وتجاوز حتى حدود المعنى اللغوي للمصطلح وطرح مفهوم أعمق للتسامح من خلال أطروحته الهزلية عن مفهوم التسامح السائد في الغرب، حيث قال توماس بين إن التسامح تقنيع للتعصب، وهو ليس نقيض  لـ اللاتسامح، بل هما وجهان لعملة واحدة، لأن أحدهما يزعم لنفسه حق منع حرية الاعتقاد، أي الحق في منع الأخرين من التعبير عن أنفسهم بداعي التعصب،  والآخر يزعم لنفسه منح حق الاعتقاد، وكلاهما طغيان فالذي يزعم حق المنع لا يختلف عن الذي يزعم حق المنح. فالذي يتسامح بدافع أنه غير متيقن سينقلب سفاحاً متعصباً إذا تأسس لديه اليقين، كما أن من يرى أنه يتنازل بقبوله المخالفين له ويتسامح معهم هو في الحقيقة متعصب مقنّع يرى الحق في الوجود محصور فيه لكنه يتنازل عن حقه في إبادتهم.

وإلى هذا المفهوم العميق أشار الفليسوف والأديب الألماني  غوتيه الذي أكد أن التسامح بمعناه الحرفي يعني التحمل بمشقة أو بصعوبة، ورأى أنه مفهوم يجب أن نقبله لكن بشكل مؤقت، إلى أن نصل إلى المعنى الأسمى والأكمل للتسامح، بل إن غوته كان يرى في التسامح بمفهومه السائد يحمل إهانة ضمنية مقتضاها “أنا اتحملك وأتقبلك بالرغم أني لا أحبك”. وإلى هذا المفهوم مالت مدرسة فرانكفورت وخصوصاً فيلسوفها الكبير هربرت ماركوزه حيث كان يرى أن التسامح بالمعنى السائد في الفلسفة والثقافة الغربية هو نوع من القمع المتخفي.

إذا كان هذا هو مفهوم التسامح وأسسه في الثقافة الغربية، فلنلقي نظرة عن مفهومه وأسسه من وجهة نظر الإسلام لنقارن بين المفهومين. ينطلق الإسلام في تأسيسه لمفهوم التسامح من مقولة العدل لا مقولة الحق كما هو عليه الحال في الثقافة الغربية، إذ من العدل أن اعترف بالآخر المخالف لي، ومن العدل أن لا أفرض عليه فلسفتي أو اعتقادي، ومن العدل أن يُسمح لكل فرد بأن يؤمن بما يشاء دون أي إكراه أو إرهاب، وهذا على خلاف مقولة الحق التي تقتضي أن أتسامح مع الآخر لأني لست متيقناً هل الحق في جانبي أم جانبه، وبالتالي اعترف له بالوجود تنازلاً مني.

ففي عموم القرآن الكريم لا توجد آية واحدة تبرر التسامح على أساس الشك في الإيمان، بل على العكس تماماً يمتلئ القرآن الكريم بالآيات التي تثبت اليقين من قبيل: ” لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ” (يونس: 94) وقوله تعالى: ” ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ” (البقرة: 2) كما يمتلئ القرآن الكريم في الوقت نفسه التي تأمر بالتسامح وقبول الآخر دون أي وجه إحراج أو ضغط عليه يقول تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” (يونس: 99)، وقوله: “أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ” (هود: 28) وقوله: ”  فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ.  لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطر” (الغاشية: 21-22).

فعلى الرغم من وجود اليقين وتأسيسه له في القرآن والسنة، إلا أن التسامح مأمور به بل وفرض على كل مسلم ومسلمة بقانون العدل الذي خلق الناس مختلفين لحكمة أرادها، بل إن مفهوم التسامح القرآني يتجاوز حدود الاعتراف وقبول الآخر إلى درجة تحقيق الوفرة والراحة للآخرين المخالفين بيننا -(“أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ” الممتحنة: 8)-  شريطة أن لا يكون في وجودهم تهديد لنا. بل وتجاوز المفهوم القرآني هذه العتبة إلى تكريس أن الإيمان بشرعية الاختلاف إيمان بالحكمة الإلهية التي خلقت التعدد والاختلاف قال تعالى: ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ” (هود: 118-119)، فالاختلاف حسب الأية مراد لله في ذاته  قال ابن عباس والحسن وعطاء والأعمش والامام مالك في تفسير هذه الآية “ولذلك خلقهم: تعني للاختلاف خلقهم خلقهم بأن يكون منهم المؤمن والكافر ” وقد وردت العشرات من الآيات في القرآن الكريم تؤكد على هذا كقوله تعالى: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ” (المائدة:48)، بل إن القرآن الكريم في غير ما آية يتحدث عن اختلاف الناس والأنبياء بين ظهرانيهم، كدلالة أن اختلاف  البشر سنة إلهية ثابتة.

وإذا انتقلنا من القرآن الكريم إلى السيرة النبوية فهي بجانبها القولي والعملي تكرس هذا المفهوم، وإلا لما بقي مشرك أو يهودي في المدينة بعد قدوم النبي إليها. وقد عكس الفقه الإسلامي في عهوده الأولى هذه الفلسفة القرآنية في التسامح، ففي مذهب مالك والأوزاعي والثوري ووافقهم على ذلك ابن تيمية وابن القيم أن الذمة تعقد لكل الكفار والمشركين على حد سواء وكل من يعيش بين المسلمين، كاعتراف من المسلمين بحقهم في الوجود، وقبول من الإسلام بوجود وبقاء معتقداتهم ودياناتهم بالرغم من بعدها عن تعاليمه وفلسفته. وفي لفتة رائعة يفتي الإمام الشافعي بحرمة دعوة الرجل المسلم لزوجته النصرانية للإسلام، خشية أن يكون في دعوته لها مظنة إكراه لقوامته عليها، وخشية أن تدخل هي الإسلام خوفاً من طلاقها، وتكثر هذه الفتاوى وغيرها في تراثنا من التي تعكس الروح القرآنية وفلسفته في التسامح.

فإذا كان هذا هو المفهوم القرآني والنبوي للتسامح فهل حال المسلمين وقناعاتهم اليوم تتوافق مع هذه الرؤية، طبعاً عموم المسلمين ليس لهم أي مشكل مع التسامح مع الآخرين بدليل بقاء الأقليات غير المسلمة في مجتمعاتنا لمئات السنين، لكن الإشكال يكمن في الجماعات المتطرفة والخطاب الذي يصحبها، والذين لا يتوافق فهمم للتسامح مع المفهوم الإسلامي القائم على مقولة العدل، ويتوافق مع المفهوم الغربي القائم على مقولة الحق في شقه الإلغائي، أي غياب التسامح في حالة ثبوت اليقين، حيث أن اليقين الزائف والحدية والقطعية في الخطاب المتطرف تنفي أي مجال لقبول الآخر المخالف لهم على الرغم من أن الله الذي خلقه وقدره منحه حرية أن يؤمن به أو يكفر به. إنه التأله الزائف والافتيات على الله الذي يحسنه المتطرفون في كل الديانات أكثر من أي شخص سواهم!


* الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة