كثيراً ما تعيد احتفالات رأس السنة الميلادية في بيت لحم مشهد التعايش الذي يلتحم فيه مسيحيو فلسطين والشرق الأوسط عموماً بمحطيهم الذي يهيمن عليه الإسلام كديانة وثقافة مجتمع، وتعيد مشاهد القداس التي يحضرها المسلمون إلى جانب أخوانهم المسيحيين شجوناً يدغدغ فينا أحلام السلام والتفاهم والتراحم في عالم اليوم الذي تمزقه الصراعات والتطرف والانغلاق، ومشاهد الترويع.
إن هذا الحدث المتكرر منذ نشأة التجاور التاريخي بين الديانتين بعد الفتوحات الإسلامية للبلاد المسيحية، يكشف لنا التفرد الذي صاغته العقلية الشرقية في تعاملها مع الآخر المخالف، هذا النمط الفلسفي والاجتماعي الشرقي المتقبّل للتباين والمتعايش معه، أثبت نجاحه عبر القرون والأزمنة. ففي الشرق الأوسط، يجتمع الإسلام مع المسيحية واليهودية واليزيدية والصابئة والزرادشتية والمندائية واليارسانية الكاكيه والفرق المتفرعة عن هذه الأديان باختلافاتها وتناقضاتها ويتعايش لمئات السنين، ولم تشهد الأيام بينهم إلا التوافق والتعايش، باستثناء محطات تاريخية تدخلت السياسة هنا وهناك لتفسد حبل الود الذي جمع كافة هذه الطوائف والديانات.
في ظل ما عرضنا يطرح سؤال؛ لماذا بقيت كافة هذه الأديان وحافظت على وجودها في وجه التمدد الإسلامي الذي انطلق من صحراء الجزيرة العربية، واقتحم جغرافيا هذه الأديان التي احتمت بها قروناً طويلة؟ تتضح الإجابة عن هذا السؤال من الفلسفة الانسانية التي صاغها القرآن الكريم لمفهوم الاختلاف بين الثقافات والأديان، وهي ما عبّر عنها مؤرخ الحضارات ويل ديورانت بـ” خطة التسامح الإسلامي” و التي أسس لها القرآن الكريم في كم من آية، مؤسساً بها فلسفة تتجاوز التسامح في مفهومه اللغوي والدلالي إلى بعد أعمق وهو التقبل والتعايش بل ووجوب الحماية لهذا التعدد، كونه دلالة عن سنة إلهية ثابتة. يقول القرآن: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ” (هود: 118-119) ويقول: ” لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ” (الغاشية: 22) ويقول: “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف: 29) ويقول: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة: 256). فالاختلاف حسب القرآن مراد لله في ذاته.
هذه الفلسفة القرآنية حرص على تجسيدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين كرر في عشرات الأحاديث تحذيره من إيذاء غير المسلمين الذين يعيشون بين المسلمين منها قوله” من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة”. فرض هذا المنهج القرآني والنبوي نسق سياسي وفكري وفقهي تحركت الآلة التشريعية في القرون الأولى للإسلام وفق منطقه، وأُدرجت بذلك كافة الأديان التي احتك بها الإسلام في القارة الآسوية كالبوذية والهندوسية تحت إطار هذه الفلسفة. فقد نص مذهب مالك والأوزاعي والثوري ووافقهم الكثير من علماء الإسلام منهم ابن تيمية وابن القيم أن عهد الأمان يعقده المسلمون لكل الذين لم يدخلوا في الإسلام على حد سواء مهما أوغلت دياناتهم في البعد عن تعاليم الديانات السماوية، وهذا اعتراف من المسلمين بحق هذه الديانات في الوجود، وقبول من الإسلام بوجود وبقاء معتقداتهم ودياناتهم. ومن الجدير بالذكر الإشارة اللطيفة التي يفتي فيها الإمام الشافعي بحرمة دعوة الرجل المسلم لزوجته النصرانية للإسلام، خشية أن يكون في دعوته لها مظنة إكراه وخشية أن تدخل هي الإسلام خوفاً من طلاقها.
هذا المنطق الذي وجّه ماكينة التشريع والتأسيس للدولة الإسلامية حفظ بقاء هذه الديانات بل أوجبت كافة المذاهب الفقهية الإسلامية على أتباعها وجوب الدفاع والقتال من أجل حماية أهل الذمة من غير المسلمين، ولو كلف ذلك المسلمين حياة العديد منهم.
إن ما قلناه آنفا يفسر بقاء مصر ذات أغلبية مسيحية 800 سنة بعد الفتح الإسلامي. هذا التعايش والتآخي المتبادل سطّر صفحات مجيدة في تاريخ التعايش الديني خصوصاً بين الإسلام والمسيحية في الشرق الأوسط بات فيها الطرفان حريصان على سلامة بعضها البعض. يذكر أن أحد الولاة أمر بهدم كنيسة في مصر فكتب الإمام الليث بن سعد إلى الخليفة طالبا عزل الوالي لأنه حسب رأي الليث كان مبتدعا فأمر ببناء الكنيسة المهدمة وبناء كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون في مصر، وفي هذا الإطار، كان الإمام الليث بن سعد يحتج بالآية القرآنية “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا”. (البقرة: 114). وفي سياق التعاون والتعايش الأخوي بين الديانتين تذكر كتب التاريخ أن الصليبيين في حملتهم الأولى أرسلوا للأقباط في مصر يطلبون مساعدتهم ضد المسلمين بدعوى الأخوّة المسيحيية التي تجمع بينهم، فكان رفض بابا مصر قاطعاً وصارماً، واختار الاصطفاف إلى جانب المسلمين، وهو ما دفع الصليببين على منع الأقباط من الحج لبيت المقدس بعد سقوطها في يدهم سنة 1099م انتقاماً من الأقباط لعدم تعاونهم. في إطار التعايش الديني بين الديانتين السماويتين، الإسلام والمسحية، يجدر بنا أن نشير إلى نموذج رائع آخر في العيش المشترك بين أتباع هاتين الديانتين؛ وهو النموذج الفلسطيني، حيث يعيش المسلمون والمسيحيون والسامريون في تعاون وتسامح وتراحم دون أن تحجر الأغلبية على الأقلية، بل إن ثمة رفضاً فلسطينياً لمصطلح الأقلية والأغلبية في هذا السياق. ففي فلسطين، لازالت مفاتيح كنيسة القيامة في القدس في عهدة عائلتين مسلمتين من أهل المدينة، هما “عائلة جودة” و”عائلة نسيبة”، حيث يقوم أفراد من العائلتين بفتح أبواب الكنيسة وإغلاقها يوميا، إضافة إلى القيام على حماية الكنيسة وحراستها. كما أن أعظم شخصية تأثيرا في الديانة اليهودية موسى بن ميمون عاش في مصر وعمل في بلاط السلطان صلاح الدين الأيوبي.
وتمتلئ كتب التاريخ بمثل هذه النماذج الحضارية من التعايش والتقبل الديني للآخر، وتعكس في مجملها الفلسفة التي تأسست قديماً أيام وثيقة المدينة التي اعترفت لليهود والمشركين بحرية الديانة، وترسخت بالعهدة العمرية، وسياسات الخلفاء والحكام الذين لم يجرأ إلا القليل منهم على المس بهذا التناغم و التعايش بين ديانات الشرق. هذا النمط الشرقي في التقبل والتسامح آثار غيرة فولتير (فيلسوف التسامح) ودعى أوروبا التي كانت في عصره لازالت رهينة الصراعات الدينية إلى الالتفات إلى الشرق حيث يسود الإسلام، وتتعايش معه المسيحية واليهودية وعدد آخر من الأديان في جو من الوئام والإخاء قل نظيره في العالم حينها.
إنطلاقا مما ذكرنا، أخذت منظمة التعاون الإسلامي باعتبارها الصوت الموحد للعالم الإسلامي وثاني منظمة دولية بعد الأمم المتحدة على عاتقها مهمة الحفاظ على هذا الإرث الإنساني. وتكريساً لهذا النمط الحضاري المتأصل في المجتمعات المسلمة، أسست المنظمة إدارة تختص بالحوار بين الثقافات والأديان وهي إدارة الحوار والتواصل التي تحمل على عاتقها تنسيق جهود الحوار والتعايش بين المكونات الإثنية والطائفية بين الدول الأعضاء، وبين الإسلام كديانة جامعة لكافة الدول الأعضاء وبقية الأديان العالمية. وتحفل جهود وانجازات المنظمة بالعديد من الفعاليات والأنشطة والقرارات التي اعتمدت خدمة لتأسيس حوار بناء وفعال بين المجتمعات والثقافات، ولعل آخر هذه الجهود عقد مؤتمرين دوليين للتوفيق والحوار بين الأديان، أولها عقد مابين 09 إلى 11 ديسمبر 2017 في دكار، وسعى لتقريب وجهات النظر بين فرقاء أفريقيا الوسطى المسيحيين والمسلمين لإعادة بناء النسيج الاجتماعي والديني الذي فككته الحرب الأهلية التي اندلعت سنة 2013، وثانيها عقد ما بين 18 إلى 20 ديسمبر 2017 في مدينة بانكوك للحوار بين الإسلام والبوذية لجلب القيادات الدينية البوذية والمسلمة وصناع القرار إلى طاولة الحوار والنقاش لإيجاد خارطة طريق تمهد للسلام والتعايش بين الأديان والثقافات.
بشير أحمد أنصاري يشغل منصب مدير إدارة الحوار والتواصل، ومركز صوت الحكمة للحوار والسلام والتفاهم في الأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي بجدة. وهو دبلوماسي أفغاني وأستاذ جامعي في الولايات المتحدة الأمريكية سابقا.