إن حالة التشنج التي تعتري علاقة الإسلام بالعالم الغربي وتعتري علاقة المسلم بمجتمعه الغربي الذي يعيش فيه وتشهد تزايد العنف ومظاهر الاسلاموفوبيا في العلاقة بين الطرفين، تستدعى وقفة ملحة ومتأنية للتأمل وبكل تجرد وموضوعية لبحث أسس التعايش والسلام التي غرسها القرآن الكريم في أدبيات المجتمع المسلم، والتي باتت تغيب عن الكثير من المسلمين وغير المسلمين على حد سواء. من المحزن القول أن الصبغة العامة للعلاقات البينية بين الثقافات والحضارات القائمة في عالمنا صبغة يغلب عليها الشك والتوتر والتنافر وانعدام الثقة، فما كان معولا على العولمة أن تفعله في شقها الإيجابي من تقريب للحضارات والثقافات لبعضها البعض بات الآن يعتبر إحدى مظاهر اخفاقاتها، فعلى سبيل العلاقات بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية كان من المفترض أن تسهل وسائل العولمة الثقافية تعارف الثقافتين وتقاربهما، وبالتالي إبراز القيم الايجابية لكل منهما وتقديمها للأخر، لكن الذي حدث هو العكس تماما حيث زادت هذه الوسائل الهوة بين الطرفين من خلال توظيف وسائل العولمة في سياق الصراع التاريخي بين الثقافتين، وهو ما يمكن التدليل عليه في الخطاب السائد بين الطرفين، وفي ردات الفعل، حيث يسرع البعض في الغرب إلى اسقاط تهمة العنف والتشدد على الثقافة الإسلامية كانعكاس للصورة التاريخية للإسلام في المخيلة الأوروبية دون أي جهد للتحري في هذه التهمة، كما تتقمص الثقافة الإسلامية في الكثير من خطاباتها صورة غير محبذة عن الثقافة الغربية تصاغ وبشكل دائم ومتكرر وفق الماضي الاستعماري بين الطرفين.
لذا يتعزز اليوم وأكثر من أي وقت مضى الشعور بضرورة دفع الحوار بين الشعوب والثقافات وخصوصا بين العالم الإسلامي والعالم الغربي نحو تحقيق الأهداف الانسانية فلا يمكن تصور أي تعاون بناء أو أي حوار حقيقى بين الحضارات والثقافات في عالم يتغير باستمرار دون الاقرار بمبدأ التنوع الثقافي واحترامه وصونه بحسبانه سبيلا للتعايش بين بني البشر والتأسيس لمستقبل مشترك أكثر اطمئنانا وتضامنا.
تشترك الحضارة الإسلامية والغربية على حد سواء، كما هو الحال بين الإسلام والمسيحية في الايمان بقيم الإخاء والعدل والتسامح وهى مبادئ كونية ينبغى الارتقاء بمضامينها وترسيخها في الضمائر والسلوك كونها موروثا انسانيا جماعيا ينبغى التأسيس عليه لبناء حوار حقيقي بين الديانات والثقافات المختلفة فكما يؤسس القرآن الكريم لهذه الحقيقة في الأية” يا أيها الناس إن خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات:13 ) ويقول في أية أخرى ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ (الممتحنة: 8)، و كان السيد المسيح قد نظّر لها من قبل وأسس لمنطلقاتها في أحدى نصوص العهد الجديد يقول: “احسنوا الى مبغضيكم، و صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم و يطردونكم، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ.” ( إنجيل لوقا 6: 27). فمن القدم وعت الأديان السماوية القيمة العليا للتنوع واستجابت لكونه حتمية طبيعة في الوجود البشري. كما وصلت الثقافات العالمية الكبرى في مجرى تطورها إلى الانفتاح الداخلي والخارجي، لأنّها أدركت بفعل منطق التطور الروحي إلى ضرورة تجاوز الحدود التي تفرضها نفسية الغريزة، أو ما كانت بعض الفلسفات القديمة تطلق عليه اسم القوة الغضبية. إنّ هذه الحالة لا تبلغها إلا الحضارات المزدهرة دون شك، لأنّها تكون قد ارتقت في ذروة إدراكها الروحي حيث يصبح الصفح جزء من حقيقة منظومة تكامل الإنسان الكوني.
وقد وقف الإسلام وبشكل واضح منذ لحظات بروزه في الجزيرة العربية مع خيار التنوع والتثاقف، من منطلق أنه ما دامت الثقافة تعبيرا عن عبقرية شعب فلا وجود لثقافة راقية أو ثقافة منحطة فلكل ثقافة عبقريتها الذاتية وغناها المتميز وحكمتها الخاصة مؤكدا أن تنوع الثقافات والحضارات نعمة من الله وأننا بصفتنا مسلمين نضطلع برسالة انسانية الغايات في تركيز أسس السلم العالمي وعلينا أن نمد أيدينا للتعاون مع جميع الحضارات الانسانية لما فيه الخير للجميع وأن لكل ثقافة قيمتها ومكانتها واسهامها في اغناء التراث الثقافي الانساني وأنها معنية بالعمل على تجسير هوة عدم الفهم بين الحضارات. وقد عبر القرأن الكريم عن هذا التوجه في الكثير من المواضع منها “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات} وقال أيضا في الآية نفسها {ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (المائدة:48). وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلى وبالتي هي أحسن} (العنكبوت:46)
لذا تخطي الإسلام كافة الحواجز القبلية وحتى العرقية معلنا على توجه جديد يصهر التنوع البشري في بوتقة واحدة قائمة على الخيرية والرحمة بغض الطرف عن التباينات الدينية والعرقية. هذه المبادئ وجدت تجسيدها العملي في الحياة العامة للمسلمين بعد تأسيس أول كيان سياسي لهم في المدينة المنورة. ففي ما سمي في مدونات المؤرخين بصحيفة المدينة، وهي نص العقد والاتفاق الذي أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم مع مكونات وتعبيرات مجتمع المدينة آنذاك، وهو يعد من النصوص التأسيسية التي توضح بشكل لا لبس فيه طبيعة العلاقة القائمة، أو التي ينبغي أن تقوم بين مختلف المكونات الدينية والقومية للمجتمع المسلم. فهو ( أي النص )” يكشف عن النوايا الحقيقية للإسلام الذي أقدم لأول مرة في التاريخ الحضاري على إنشاء مجتمع واحد مختلط قائم على شعار المواطنة “لهم مالنا وعليهم ما علينا”و يجمع بين المسلمين واليهود والمشركين حيث يقوم الناس على اختلاف أديانهم بمسؤوليات واحدة في حياتهم الدنيا”.
وقد رسخت محطات التاريخ هذه المبادئ من خلال جملة من محطات التماس الإسلامي المسيحي، مثل العهدة العمرية ووثيقة عمرو بن العاص لأقباط مصر، وفتح القسطنطينية. إذ لم يعمل الإسلام ولا العرب على فرض نمطهم الثقافي على المجتمعات التي دخلت الإسلام، حيث حافظت أغلب الشعوب التي دخلت الإسلام على خصوصيتها الثقافية واللغوية ولم تتعرض لأي شكل من أشكال الإكراه للتنكر لذاتها وتاريخها، لذا بقيت مجتمعات التحقت باكراً بالإسلام وكانت لصيقة جغرافيا على لغتها كإيران وشرق افريقيا وتركيا وغيرها.
يلفت المستشرق روبرتسن فى كتابه (تاريخ شارلكن) انتباه الغربيين إلى حقيقة جمع المسلمين بين الغيرة والحماس الديني وبين اعطاء مساحة وجود وسلم للآخر المخالف في قوله: ”إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم، وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحراراً فى التمسك بتعاليمهم الدينية. كما يشير المؤرخ الأمريكي العريق ول ديورانت إلى أثر سياسة التسامح هذه في انتشار الإسلام نفسه وغلبته على ما يحيط به من أديان، يقول: ” وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التى كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة اعتنق الدين الجديد معظم المسحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عددً قليلاً منهم، واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب فى البلدان الممتدة من الصين وأندونسيا إلى مراكش والأندلس وتملك خيالهم وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث آمالا تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها.“
* الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة