لا مراء في أنّ أوضح آية على ظاهرة فساد التّدين انتشار ظاهرة التكفير، ولهذا فإنّ إصلاح التّدين يُعدّ خطوة ـ وأيّ خطوة ـ في طريق تجفيف منابع التكفير، وآفة فساد التدين ـ وكلّه آفات ـ أنّ صاحبه يموج في بحر من الضلال وهو يحسب أنّه على هدى من ربّه، فيضيع عمره الذي هو “أنفس كنز يملكه” كما قال عبد الحميد بن باديس، ويشوّه دينه مما ينفّر النّاس ويجعلهم يصدون عن دين الله صدودا، فعلاج ظاهرة التكفير يسير جنبا إلى جنب مع علاج ظاهرة فساد التّدين، وتلك هي مأساة دعاة التكفير ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا والآخرة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. والحقّ أنّ من أراد البحث عن جذور التكفير لا شك أنه يعثر عليها في ثنايا “التّدين المعلول”، ولولا “التّدين المعلول” لما سقط الخوارج تلك السقطة المريعة، وسنّوا تلك السنة السيئة التي لا نزال نصطلي بنارها إلى يوم النّاس هذا، والمتتبع لحركة التكفير يجد أنّ جذورها متشعبة إلى درجة يصعب فرزها، ومعقدة إلى درجة يشق فهمها، ولعل من أهم جذورها:
1 ـ التعصب: وهو إصرار الإنسان على أنّ قراءته هي الدين وليس قراءة للدين، فالأول يشن حربا لا هوادة فيها على كلّ القراءات التي تُخالف قراءته، أما الثاني فإنّه يحترم القراءات الأخرى ولا يسعى إلى تسفيهها والاستخفاف بها، فالمتعصب ينظر إلى ما في جعبته من معارف ومعلومات على أنّه مسلمات وقطعيات، ومما لا يخفى على أحد أنّ المسلمات والقطعيات تأبى أن تطفو على السطح لتناقش أو تراجع، وبهذا “العته الفكري” يغلق المتعصب على نفسه باب التقويم والمراجعة، واتفق العقلاء على أنّ التقويم والمراجعة حجر الأساس في أي إصلاح فكري أو عملي أو … ، فالذي يغلق باب التقويم والمراجعة يظل يتردّى في ضلاله، ويلوك أخطاءه، ولا يعرف إلى الصواب سبيلا، ولا إلى الهدى طريقا، وهذا من أشدّ أصناف “الغرور العقلي” خطورة على الأفراد والمجتمعات، أي: أن يعتقد دعاة التكفير أنّ الهدى حكر على جماعتهم، وأنّ الصواب وقف على آرائهم، فحركة التاريخ تقول: أنّ “الغرور العقلي” يبدأ فكرا وينتهي عنفا.
2 ـ الانغلاق: وهو رفض الحوار، وغلق باب التواصل، فترى دعاة التكفير ينغلقون على آرائهم ولا يقبلون غيرها، وينكفئون على ذاتهم فلا يتواصلون مع مخالفيهم، ويحيون وسط جماعتهم ويعتزلون سواهم، لأنّ مخالفيهم أصحاب أهواء وشبهات، قد يفتتن من يخالطهم أو يطلع على آرائهم، والحي لا تؤمن عليه الفتنة، ويصور له أنّ الالتقاء مع أتباع المذاهب الأخرى والاطلاع على آرائهم وقراءة مصنفاتهم طريق الضلالة والغواية، وبهذه “الفتاوى المعلبة” يعيش دعاة التكفير في “عزلة شعورية” قاتمة، وهذا ما يُفسّر أنّ دعاة التكفير الذين يشنون عمليات إرهابية يتفاجأ جيرانهم وحتى أقرب النّاس إليهم بصنيعهم، ويصابون بصدمة ـ وأي صدمة ـ ولا يكاد يصدّقون .. كيف لرجل محترم وهادئ ومتدين … أن يقوم بهذه العملية الوحشية، ويروع هؤلاء الآمنين في سربهم.
3 ـ التّشدد: ومشكلة دعاة التكفير أنهم يربطون بين التّدين والتّشدد؛ ويحسبون أنه على قدر تشددهم على قدر تدينهم، فهم لا يرون التّدين في اليسر بل في العسر، والله تعالى يقول: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” (البقرة/185)، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: “إنّ الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرّوحة، وشيء من الدلجة” (أخرجه البخاري)، وأخطر شيء في التشدد أن ينتقل من الفكر إلى العمل، ويتحول إلى خط في التدين، يناقض خط التدين الذي رسمه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، ولهذا نجد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث الرّهط الثلاث كيف سارع إلى إصلاح خط التّدين الذي اختاروه وإن كان قصدهم الخير ومزيد التقرب إلى الله تعالى، لأن تجارب التاريخ أثبتت أنّ التّشدد ينتهي في أتون العنف والتكفير.
4 ـ السعي إلى فرض الرأي على الآخرين: وهذه مسألة من الدّقة بمكان، لأنّ الذي يسعى إلى فرض آرائه على الآخرين، لا مراء في أنّه ينطلق من قطعية هذه الآراء، وهذا يعني بالضرورة أنّ عدم الامتثال لهذه الآراء، يصنّف ضمن المعاصي والمنكرات، وبديهي أنّ تغيير المنكرات من أوجب الواجبات، مما يفتح باب جهنّم على المخالفين، ولهذا لا يرى دعاة التكفير مخالفيهم مجتهدين وإنما يرونهم عاصين، وعندها يدخلون معهم في سلسلة من الإجراءات لها أول وليس لها آخر، تصب كلّها ـ وللأسف ـ في تشظي “الجامعة الإسلامية”، ومن أخطر الأشياء على دين الله وعباده التعامل مع الظنيات المختلف فيها على أساس أنها قطعيات مجمع عليها، ثمّ يجاء بـ”مقصلة التصنيف” لتزيد الطين بلة، و”مشنقة الولاء والبراء” لتكمل البقية الباقية، وعندها يجتاح طوفان التكفير السهل والوعر.
5 ـ الحدة في النقاش: إنّ الحدة في النقاش لا علاقة لها بالمنهج القرآني، فالله تعالى يقول: “قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عمّا تعملون”(سبأ/ 25)، ولا علاقة لها بالمنهج النبوي فرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في الساعات الحوالك كان يناجي ربّه ويقول: “بل أرجو أن يخرج الله عزّ وجل من أصلابهم من يعبد الله عزّ وجل وحده لا يشرك به شيئا” (أخرجه البخاري)، وإنما تنطلق الحدة في النقاش من اعتقاد دعاة التكفير أنهم يملكون الحق المطلق في فهم الإسلام، وأنهم يحوزون على الحقيقة المطلقة، فلسان حال هؤلاء: “أنا الإسلام، والإسلام أنا، من خالفني خالف الإسلام، ومن وافقني وافق الإسلام”، فهم يناقشون مخالفيهم ليهدوهم إلى سواء السبيل، ولا يناقشونهم ليصلوا وإيّاهم إلى مرافئ الحقيقة، ومن كان هذا حالهم أنّى يعرفون “النّقد الذّاتي”، وأنّى يملكون “ثقافة الاستماع” إلى المخالفين، فالذين يعتقدون احتمال الخطأ في آرائهم وأفكارهم يخف عندهم منسوب الحدة في النقاش إلى درجة التّلاشي، أما الذين يعتقدون الصواب المطلق في آرائهم وأفكارهم فإن منسوب الحدة في النقاش يبلغ مداه، وربما يتحول إلى معركة حامية الوطيس تمزق “ميثاق الأخوة” الذي هو من أقدس المواثيق عند الله تعالى، وإذا مزّق “ميثاق الأخوة” سفكت الدماء، وأزهقت الأنفس، واستبيحت الحرمات.
ومهما يكن من أمر فإن القضاء على ظاهرة التكفير يبدأ بالقضاء على جذورها، ولنا في القرآن الكريم الذي هو التفسير النّظري للإسلام، وفي السيرة النّبوية التي هي التّفسير العملي للإسلام، البلسم الكافي إذا أردنا القضاء على جذور ظاهرة التكفير، وما استفحال هذه الظاهرة كلّ هذا الاستفحال إلا لأنّ المسلمين هجروا القرآن الكريم وضيّعوا سيرة خاتم المرسلين؛ هجروا القرآن الكريم ومبلغ همُّهم إقامة حروفه، وضيّعوا السيرة النبوية ومبلغ همُّهم إحياء القسم الذي لا مجال فيه للقدوة وأما القسم الذي هو مجال القدوة فإنهم لا يلتفتون إليه، ومن نظر إلى هذه الجذور التي أتينا عليها ثم تأمل القرآن الكريم والسيرة النبوية حقّ التأمل لوجدها تعالج هذه الجذور في كلّ ثناياها وفي جميع تفاصيلها، ورحم الله الإمام مالك بن أنس إذ يقول: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.
أحمد رشيق بكيني
رئيس المركز الثقافي الإسلامي ـ سطيف ـ الجزائر