منهج السلف في مكافحة التطرف

من قسم افتراضي, المقالات. منذُسنة واحدة.2019-09-04T12:31:12+03:0012:00 صباحًا الإثنين 26 فبراير 2018 م / _26 _فبراير _2018 ه‍|

تزخر كتب التراث الإسلامي بالقصص والمناظرات التي عقدها سلف هذه الأمة مع الخوارج الذين ظهروا في القرن الأول للهجرة، وقد اشتهرت من بين هذه المناظرات والمحاورات؛ مناظرة ابن عباس لهم، ومناظرة عمر ابن عبد العزيز، وقد غطت هاتان المناظرتان لشهرتهما عن الكثير من المناظرات والمحاورات الأخرى الهامة، التي رسم فيها التابعون وعلماء السلف منهجاً حوارياً دقيقاً قوامه القرآن الكريم في مناظرة المتطرفين الخوارج. ومن بين تلك المحاورات محاورة ومناصحة وقعت بين التابعي الجليل وهب بن منبه ورجل يدعى ذو خولان وهو رجل من اليمن كان يتعاطف مع الخوارج ويدفع لهم زكاة ماله.
فضلنا أن نورد المحاورة هنا بنصها كما هي للوقوف على المنهجية القرآنية التي اعتمدها ابن منبه في اقناع ذي خولان ببطلان مذهب الخوارج، وإقناعه بترك سبيلهم وجماعتهم. ولعل في سطور هذه المناصحة الكثير من اللفتات العجيبة التي تتحدث عن حال المتطرفين من قاعدة وطالبان وداعش وما لفّ لفهم من جماعات التطرف والإقصاء.

نص المحاورة

قَالَ على بن الْمَدِينِيّ حَدثنَا هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء قَالَ أَخْبرنِي دَاوُد بن قيس قَالَ كَانَ لي صديق من أهل بَيت خولان من حُضُور يُقَال لَهُ أَبُو شمر ذُو خولان قَالَ فَخرجت من صنعاء أُرِيد قريته فَلَمَّا دَنَوْت مِنْهَا وجدت كتابا مَخْتُومًا فِي ظَهره إلى أبي شمر ذِي خولان، فَجِئْته فَوَجَدته مهموما حَزينًا، فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ قدم رَسُول من صنعاء فَذكر أن أصدقاء لي كتبُوا إِلَيّ كتابا فضيعه الرَّسُول، فَبعثت مَعَه من رقيقي من يلتمسه بَين قريتي وَصَنْعَاء فَلم يجدوه وأشفقت من ذَلِك.
قلت فَهَذَا الْكتاب قد وجدته!
فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أقدرك عَلَيْهِ، ففضه فقرأه، فَقلت أقرئنيه
فَقَالَ إِنِّي لأستحدث سنك، قلت فَمَا فِيهِ قَالَ ضرب الرّقاب، قلت لَعَلَّه كتبه إِلَيْك نَاس من أهل حروراء فِي زَكَاة مَالك، قَالَ من أَيْن تعرفهم؟
قلت إِنِّي وأصحاباً لي نجالس التلبعي وهب بن مُنَبّه فَيَقُول لنا احذورا أَيهَا الْأَحْدَاث الأغمار هَؤُلَاءِ الحروراء لَا يدخلوكم فِي رَأْيهمْ الْمُخَالف فَإِنَّهُم عرة لهَذِهِ الْأمة فَدفع الي الْكتاب فَقَرَأته فَإِذا فِيهِ

فَقلت لَهُ فَإِنِّي أنهاك عَنْهُم.

قَالَ فَكيف أتبع قَوْلك وأترك قَول من هُوَ أقدم مِنْك؟
قَالَ قلت أفتحب أن أدخلك على وهب بن مُنَبّه حَتَّى تسمع قَوْله ويخبرك خبرهم: قَالَ نعم!
فَنزلت وَنزل معي إِلَى صنعاء ثمَّ غدونا حَتَّى أدخلته على وهب بن مُنَبّه ومسعود بن عَوْف وَال على الْيمن من قبل عُرْوَة بن مُحَمَّد.
قَالَ عَليّ ابْن الْمَدِينِيّ هُوَ عُرْوَة بن مُحَمَّد بن عَطِيَّة السَّعْدِيّ ولاؤنا لَهُم من سعد بن بكر بن هوَازن، قَالَ فَوَجَدنَا عِنْد وهب نَفرا من جُلَسَائِهِ، فَقَالَ لي بَعضهم من هَذَا الشَّيْخ؟ فَقلت هَذَا أَبُو شمر ذُو خولان من أهل حُضُور وَله حَاجَة إلى أبي عبد الله( وهب بن منبه).
قَالُوا أَفلا يذكرهَا؟!
قلت إِنَّهَا حَاجَة يُرِيد أن يستشيره فِي بعض أمره، فَقَامَ الْقَوْم وَقَالَ وهب مَا حَاجَتك يَا ذَا خولان؟
فهرج وَجبن من الْكَلَام!
فَقَالَ لي وهب عبر عَن شيخك
فَقلت نعم يَا أَبَا عبد الله إِن ذَا خولان من أهل الْقُرْآن وأهل الصّلاح فِيمَا علمنَا وَالله أعلم بسريرته فَأَخْبرنِي أنه عرض لَهُ نفر من أهل صنعاء من أهل حروراء، فَقَالُوا لَهُ زكاتك الَّتِي تؤديها إِلَى الْأُمَرَاء لَا تجزي عَنْك فِيمَا بَيْنك وَبَين الله لأَنهم لَا يضعونها فِي موَاضعهَا فأدها إلينا فَإنَّا نضعها فِي موَاضعهَا نقسمها فِي فُقَرَاء الْمُسلمين وَنُقِيم الْحُدُود، وَرَأَيْت أن كلامك يَا ابا عبد الله أشفى لَهُ من كَلَامي، وَلَقَد ذكر لي أنه يُؤَدِّي إِلَيْهِم الثَّمَرَة لوَاحِدَة مئة فرق على دوابه وَيبْعَثهَا مَعَ رَقِيقه.
فَقَالَ لَهُ وهب: يَا ذَا خولان أَتُرِيدُ أن تكون بعد الْكبر حرورياً (خارجياً) تشهد على من هُوَ خير مِنْك بالضلالة فَمَاذَا أنت قَائِل لله غَدا حِين يقفك الله؟
وَمن شهِدت عَلَيْهِ الله بِالْإِيمَان وأنت تشهد عَلَيْهِ بالْكفْر، وَالله يشْهد لَهُ بِالْهدى وأنت تشهد عَلَيْهِ بالضلالة فَأن تقع إِذا خَالف رَأْيك أَمر الله وشهادتك شَهَادَة الله.
أخبرني يَا ذَا خولان مَاذَا يَقُولُونَ لَك فَتكلم عِنْد ذَلِك ذُو خولان
وَقَالَ لوهب إِنَّهُم يأمرونني أن لَا أَتصدق إلا على من يرى رَأْيهمْ وَلَا أسْتَغْفر إِلَّا لَهُ
فَقَالَ وهب صدقت هَذِه محبتهم الكاذبة
فَأَما قَوْلهم فِي الصَّدَقَة فَإِنَّهُ قد بَلغنِي ان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر أن امْرَأَة من أهل الْيمن دخلت النَّار فِي هرة ربطتها فَلَا هِيَ تطعمها وَلَا هِيَ تركتهَا تأكل من خشَاش الأَرْض أفإنسان مِمَّن يعبد الله ويوحده وَلَا يُشْرك بِهِ شَيْئا أحب إلى الله من أن تطعمه من جوع أوْ هرة وَالله يَقُول فِي كِتَابه: (ويطعمون الطَّعَام على حبه مِسْكينا ويتيما وأسيرا إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله لَا نُرِيد مِنْكُم جزاءا وَلَا شكُورًا إِنَّا نَخَاف من رَبنَا يَوْمًا عبوساً قمطريرا) يَقُول يَوْمًا عسيراً غضوباً على أهل مَعْصِيَته لغضب الله عَلَيْهِم {فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم} ثمَّ قَالَ وهب مَا كَاد تبَارك وَتَعَالَى أن يفرغ من نعت مَا أعد لَهُم بذلك من النَّعيم فِي الْجنَّة.
وأما قَوْلهم لَا يسْتَغْفر إلا لمن يرى رَأْيهمْ أهم خير من الْمَلَائِكَة وَالله تَعَالَى يَقُول فِي سُورَة {حم عسق} {وَالْمَلَائِكَة يسبحون بِحَمْد رَبهم وَيَسْتَغْفِرُونَ لمن فِي الأَرْض} وَأَنا أقسم بِاللَّه مَا كَانَت الْمَلَائِكَة ليقدروا على ذَلِك وَلَا ليفعلوا حَتَّى أُمروا بِهِ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ} وأنه أَثْبَتَت هَذِه الْآيَة فِي سُورَة {حم عسق} وفسرت فِي {حم} الْكُبْرَى قَالَ الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله يسبحون بِحَمْد رَبهم ويؤمنون بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين ءامنوا…. الْآيَات
أَلا ترى يَا ذَا خولان إِنِّي قد أدْركْت صدر الْإِسْلَام فوَاللَّه مَا كَانَت للخوارج جمَاعَة قطّ إلا فرقها الله على شَرّ حالاتهم وَمَا أظهر أحد مِنْهُم قَوْله إلا ضرب الله عُنُقه وَمَا اجْتمعت الْأمة على رجل قطّ من الْخَوَارِج!
وَلَو أمكن الله الْخَوَارِج من رَأْيهمْ لفسدت الأَرْض وَقطعت السبل وَقطع الْحَج عَن بَيت الله الْحَرَام وَإِذن لعاد أمْر الإسلام جَاهِلِيَّة حَتَّى يعود النَّاس يستعينون برؤوس الْجبَال كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة وَإِذن لقام أكثر من عشرَة أوْ عشْرين رجلا لَيْسَ مِنْهُم رجل إلا وَهُوَ يَدْعُو إلى نَفسه بالخلافة وَمَعَ كل رجل مِنْهُم أَكثر من عشرَة آلَاف يُقَاتل بَعضهم بَعْضًا وَيشْهد بَعضهم على بعض بالْكفْر حَتَّى يصبح الرجل الْمُؤمن خَائفًا على نَفسه وَدينه وَدَمه وَأَهله وَمَاله لَا يدْرِي أَيْن يسْلك أوْ مَعَ من يكون. غير أن الله بِحكمِهِ وَعلمه وَرَحمته نظر لهَذِهِ الْأمة فَأحْسن النّظر لَهُم فَجَمعهُمْ وَألف بَين قُلُوبهم على رجل وَاحِد لَيْسَ من الْخَوَارِج فحقن الله بِهِ دِمَاؤُهُمْ وستر بِهِ عَوْرَاتهمْ وعورات ذَرَارِيهمْ وَجمع بِهِ فرقتهم وأمّن بِهِ سبلهم وَقَاتل بِهِ عَن بَيْضَة الْمُسلمين عدوهم وَأقَام بِهِ حدودهم وأنصف بِهِ مظلمومهم وجاهد بِهِ ظالمهم رَحْمَة من الله رَحِمهم بهَا.

قَالَ الله تَعَالَى فِي كتابه {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض} إِلَى {الْعَالمين} واعتصموا بِحبل الله جَمِيعًا حَتَّى بلغ {تهتدون} وَقَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا} إِلَى {الأشهاد} فَأَيْنَ هم من هَذِه الْآيَة فَلَو كَانُوا مُؤمنين نصروا!
وأكمل وهب قوله قائلا: وَقَالَ {وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} لَو كَانُوا جند الله غلبوا وَلَو مرّة وَاحِدَة فِي الْإِسْلَام، وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد أرسلنَا من قبلك رسلًا إِلَى قَومهمْ}، فَلَو كَانُوا مُؤمنين نصروا، وَقَالَ {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم}، فَأَيْنَ هم من هَذَا هَل كَانَ لأحد مِنْهُم قطّ أخبر إلى الِاسْم من يَوْم عمر بن الْخطاب بِغَيْر خَليفَة وَلَا جمَاعَة وَلَا نظر وَقد قَالَ الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله} وأنا أشهد أن الله قد أنفذ مَا وعدهم من الظُّهُور والتمكين والنصر على عدوهم وَمن خَالف رَأْي جَمَاعَتهمْ.

وَقَالَ وهب أَلا يسعك يَا ذَا خولان من أهل التَّوْحِيد وأهل الْقبْلَة وَأهل الاقرار بشرائع الْإِسْلَام وسننه وفرائضه وَمَا وسع نَبِي الله نوحًا من عَبدة الْأَصْنَام وَالْكفَّار إِذْ قَالَ لَهُ قومه: (قَالُوا أنؤمن لَهُ وأتبعك الأرذلون)، أَولا يسعك مِنْهُم مَا وسع نَبِي الله وخليله إِبْرَاهِيم من عَبدة الْأَصْنَام إِذْ قَالَ {واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام}، أَولا يسعك يَا ذَا خولان مَا وسع عِيسَى من الْكفَّار الَّذين اتخذوه إِلَهًا من دون الله وَإِن الله قد رَضِي قَول نوح وَقَول ابراهيم وَقَول عِيسَى إلى يَوْم الْقِيَامَة ليقتدي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَمن بعدهمْ يَعْنِي {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} وَلَا يخالفون قَول أَنْبيَاء الله ورأيهم فبمن يَقْتَدِي إِذا؟ لم يقتد بِكِتَاب الله وَقَول أنبيائه ورأيهم!
وَاعْلَم أن دخولك عَليّ رَحْمَة لَك إِن سَمِعت قولي وَقبلت نصيحتي لَك وَحجَّة عَلَيْك غَدا عِنْد الله إِن تركت كتاب الله وعدت إلى قَول الحروراء (الخوراج)
قَالَ ذُو خولان فَمَا تأمرني؟
فَقَالَ وهب: انْظُر زكاتك الْمَفْرُوضَة فأدها إلى من ولاه الله أَمر هَذِه الْأمة وجمعهم عَلَيْهِ فَإِن الْملك من الله وَحده وَبِيَدِهِ يؤتيه من يَشَاء وينزعه مِمَّن يَشَاء فَمن ملكه الله لم يقدر أحد أن يَنْزعهُ مِنْهُ فَإِذا أدّيت الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة إلى وَلِي الْأَمر بَرِئت مِنْهَا فَإِن كل فضل فصل بِهِ من أرحامك ومواليك وَجِيرَانك من أهل الْحَاجة وضيف إِن ضافك.
فَقَالَ ذُو خولان: فَقَالَ أشهد أَنِّي نزلت عَن رَأْي الحرورية وصدقت مَا قلت
فَلم يلبث ذُو خولان إلا يَسِيرا حَتَّى مَات.


* الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة