ولذلك خلقهم

من قسم افتراضي, المقالات. منذُسنة واحدة.2019-09-04T12:35:36+03:0012:00 صباحًا الأحد 25 مارس 2018 م / _25 _مارس _2018 ه‍|

تشير الإحصائيات إلى أن ثلاثة أرباع الصراعات التي اندلعت بين البشر هي صراعات ذات أصول فكرية وثقافية، نشأت أساساً بسبب الاختلاف اللغوي أو الديني أو الثقافي أو العرقي بين المجموعات البشرية. وبدافع من إحساس الجماعات أو الثقافات بالخطر من الجماعات المغايرة لها؛ نشأت الحساسيات والعصبيات التي قادت للصدام المتكرر الذي صبغ تاريخ الإنسان على هذا الكوكب، بشكل دفع بعض المؤرخين المتشائمين إلى وصف تاريخ الإنسان بكونه مجرد تاريخ لسلسة من الحروب. يذكر  لورانس هـ. كيلي في كتابه “الحرب قبل الحضارة” أن ما يقرب من 90-95 ٪ من المجتمعات المعروفة على مر التاريخ قد شاركت على الأقل في حرب عرضية، أي أن معظم البشر عبر التاريخ لم يتقبلوا فكرة وجود وبقاء المختلف الإيديولوجي أو الاقتصادي أو العرقي بالجوار منهم، دون أن يحاولوا استأصاله، والقضاء على سبب الاختلاف الذي ميزهم عنه أو ميزه عنهم. ففي أوروبا الغربية وحدها ومنذ أواخر القرن الثامن عشر كان هناك أكثر من 150 من الصراعات والمعارك فيما يقرب من 600 مكان في رقعة جغرافية صغيرة جداً بمساحة أوروبا.

هذا الحجم من الدم والصراع المدفوع برفض الاختلاف ومحاولة استئصال المخالف الآخر سواءاً كان سياسياً أو اقتصادياً أو عرقياً أو لغوياً أو دينياً تغيب فيه عن العقول حقيقة أن التنوع والاختلاف صفة أصيلة وركيزة محورية للوجود البشري من أساسه، والتي لولاها (صفة الاختلاف) لما كان الإنسان إنساناً من أصله، نظراً لطبيعة الانتشار التي طبعت تواجد الانسان على البسيطة والتي قضت بأن يختلف الناس عن بعضهم بعضاً في اللغة واللون والدين، ففي الـ 180 دولة التي تتقاسم جغرافيا هذا العالم هناك 6000 جماعة لغوية أو عرقية، و يستحيل أن توجد دولة واحدة من هذه  الدول تتمتع بالتجانس الكلي في اللغة والعرق أو الطائفة. وهي ما يحلينا إلى حقيقة أن الاختلاف بين البشر مراد في ذاته، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بوضوح في قوله تعالى ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً  وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُم” (هود: 118، 119)

فالاختلاف والتنوع والتعدد وفق المنطق القرآني هي آيات على الله تعالى ذاته، لذك حشد القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تشير إلى الاختلاف، وهي آيات في مجملها تعمل في اتجهين، الأول في اتجاه التدليل على وجود الحق ووحدانيته، والآخر في اتجاه التدليل على صفات الحق عز وجل قال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُون” وقال ” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ” (الروم: 20-22). هذه الآيات والعشرات من الآيات المماثلة لها تدل على صفاته المتعالية في مقابل نقص وحاجة مخلوقاته المتعددة. فمن خلال هذا الوصف القرآني المتكرر لسنة الاختلاف البشرية شاء الله أن يتجلى في هذا العالم عبر وحدته في ذاته وعبر تعدد مخلوقاته، فالوحدة له هو فقط، ليس في الألوهية فقط بل في كل تفاريع الحياة، لذلك ليس هناك نبي واحد بل مئات من الأنبياء، وليس هناك لغة واحدة بل آلاف، وليس هناك وطن واحد بل هناك أوطان، كما أنه ليس هناك دين واحد بل أديان، لكن مع هذا التنوع الكبير هناك إله واحد. فالواحدية له هو وحده تعالى، والتعدد والاختلاف صفة لمخلوقاته التي يعلوها في الرقي والتكريم ذلك الانسان، الذي يتنكر دوماً لخالقه بأن يعبد غيره أحياناً، وأحياناً يتنكر لوحدانيته حين يحاول تنميط العالم وفق هواه أو معتقداته هو. لذا حين يمارس الرافض لسنة الاختلاف؛ الوثنية بمعناها الحقيقي لأنه ينافس وحدانية الله، التي شاء أن تكون له وحده تعالى.

وكما حرص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على اعتبار الاختلاف والاعتراف به، حرصاً على سد سبل الصراع والصدام بين المختلفين من خلال العديد من الآيات الناصة على أن محاولة فرض الرأي أو الاعتقاد على أي مخالف ليس من روح الدين،  قال تعالى: ” مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ” (المائدة: 99) وقال تعالى ” لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ” (البقرة: 272) وقال ” “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ”(المائدة: 48)

فخطة قولبة الناس وفق فهم واحد ونمط واحد وجمعهم على ايدلوجيا واحدة لم تنجح في التاريخ، ولم يكتب لأي محاولة النجاح في سجل الوجود البشري، وما بدى أنها خطط ناجحة تمت بطريق واحد وهو ذبح البشر وإراقة دماء آلاف وملايين العباد، والأخبار لازالت طرة طرية بأخبار الشموليين الذين نهجوا هذا المنهج وذبحوا في سبيل مساعيهم هذه ملايين الأبرياء، مثل ستالين وماو تسي تونغ الذين أرادو أن يروا شعوبهم على صورتهم هم أنفسهم، ولم يقبلوا بالاختلاف والتنوع بينهم.  إن المنطق القرآني يتحدى هذا المنطق التوحيدي الماحق لسنة الاختلاف البشري في كذا موضع من آياته قال تعالى: “ولا يزالون مختلفين” أي أن الاختلاف سيبقى بين البشر رغم إرادة التنميط والقولبة التي تديرها الجماعات والمدارس والأيديولوجيات.

ومن هنا نقف على زيف دعاوى الجماعات المتطرفة والرافضة لأي شكل من أشكال الاختلاف معها، أليسوا يحاربون الله حين يعلنون الحرب على إخوانهم المخالفين لهم في السياسة والدين! أليسو وثنيين حين يحاولون استئصال سنة الاختلاف بين الناس وتوحيد وتنميط العباد وفق قوالبهم و شعاراتهم الزائفة!!


* الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة