“العنف الفقهي” .. هذه البذرة الخبيثة التي نبذرها ونبذرها في المصنفات الدينية من عقيدة وفقه … فتخرج لنا شجرة التعصب، هذه الشجرة العاتية على الاستئصال فهي خلايا سرطانية لا تعرف إلا التكاثر والانتشار، ودونك المنتوج الفكري للحركات المتطرفة ومتطرفي الجماعات والمذاهب الإسلامية لتقف على منسوب “العنف الفقهي” بين دفتيها، ويجد المرء نفسه أمام “معجم العار”؛ وتستوقفك مادة: شرك، كفر، ضل، بدع، فسق، بطل، حرم … بكلّ اشتقاقاتها، فهل نحتاج إلى كلّ هذا الكم من “العنف الفقهي”؟ والقصة كلها أنّ كلّ طرف يريد أن ينتصر لمذهبه، ويضفي الشرعية على جماعته، ولو أنّ “أولي الألباب” تداعوا إلى “مجمع جامع” وأجمعوا أمرهم على إقرار “مذهب المصوبة” في مسائل الفروع العقدية والفقهية، إذ أنّ مسائل الأصول العقدية والفقهية من المسائل المتفق عليها، وهي بمثابة القاسم المشترك بين كلّ المدارس العقدية والمذاهب الفقهية، لاجتثوا شجرة التعصب، وأنهوا هذه “المأساة المهزلة” المزمنة.
والحق أنّ إقرار “مذهب المصوّبة” هو من أنجع الأدوية ـ إذا لم يكن أنجعها ـ التي تساهم مساهمة كبيرة وفعالة في القضاء على “العنف الفقهي” الذي تعج به المصنفات الدينية، وعندها يتم قطع أهم شريان من شرايين “التعصب” .. هذا الداء العضال الذي أذهب سماحة الإسلام، وعبث بوحدة المسلمين، وبدل أن تشحن المصنفات الدينية بعبارات: “اختلفت مذاهب العلماء” تمتلئ بعبارات: “تعددت مذاهب العلماء”، وحينئذ لا تستنزف طاقات الأمة ومقدّراتها في تبيان صواب هذا الفريق وخطأ هذا الفريق وإنما توجه طاقات الأمة ومقدّراتها إلى حقل الدعوة إلى الله، وتعليم الأمة أمور دينها، وتعريف الإنسانية التي أثخنها التيه رسالة الإسلام، ولو فقهت الأمة الإسلامية دورها ورسالتها لعرفت أنّ البشرية أحوج ما تكون إلى تعانقها، وأنّ تراشقها وبال وأي وبال على حاضر الإنسانية ومستقبلها.
والحق أنّ تصنيف الموروث الفكري إلى صحيح وخطأ، وضلال وهدى، يعني شطب شطر من موروث الأمّة، وإصدار حكم غير قابل للنقض على عدم صلاحيته، ولو أُعمل “مذهب المصوبة” لوضعت هذه “الحروب” الحقيقية والمفتعلة أوزارها، وتصالحت الأمة مع موروثها تأخذ منه ما يناسب عصرها، ويلبي احتياجات حاضرها، ويحل مشكلاتها المستجدة، ويتحول موروثها إلى “منجم فكري” ترده الإنسانية كلّ الإنسانية استفادة منه وإصلاحا لشؤونها.
وتكريس “مذهب المصوبة” يظهر الأمة في مظهر “الوحدة” ويُهال التراب على كلّ الخلافات، والتجاذبات، والصراعات، والمهاترات، وهذه “الوحدة” تصيّرها كالبنيان المرصوص، مما يورثها الثقة في نفسها فترقى في سلم الشهود الحضاري، ولا تتداعى عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وهذه “الوحدة” هي التي تثمر الأخوة أحد مقاصد الإسلام الكبرى، وإذا بسطت الأخوة ظلالها على القلوب تسامت على كلّ الضغائن والأحقاد، وأينعت التحابب الذي يعصم الأمم والمجتمعات من كلّ دعاوى الجاهلية، وأخطر شيء يصيب الناشئة هو “الاشتغال بما دار بين العلماء” بدل “الاشتغال بعلوم العلماء” وعندها تذهب الأعمار سدى، ويضيع شباب المرء الذي هو أخصب فترات حياته فيما لا يجدي ولا ينفع.
أليس من الأجدى أنه بدل تأليف “كتب الردود” ـ وأي ردود ـ التي اتخمت المكتبة الإسلامية، وأذهبت جمالها الفكري، وأزرت رونقها العلمي، تتوجه أقلام الأمة إلى “كتب التأصيل” و” كتب الشروح” التي تشرح الإسلام، ورسالته، وتعاليمه، وهدايته، وعندها ننقل شباب الأمة إلى ميادين أرحب، ومجالات أنفع، وساحات أجدى، بدل اعتكافهم على هذه المعارك التي لا مستفيد منها إلا عدوهم، ولا خاسر فيها إلا أمتهم، والحقّ أنّ العمل الذي لا يزكي النفس ولا ينفع الأمة ضرره أكبر من نفعه، بل لا نفع فيه على الإطلاق، وهذه قاعدة ذهبية يجب إعمالها في كلّ القضايا والمسائل والمواضيع، ولماذا كل هذه المعارك والمناقشات في المعاهد والكليات والمساجد والنوادي … حول هذه القضايا التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولماذا لا تدور رحى المناقشات في مواضيع تهم الإسلام، وتنفع المسلمين، وتصلح العالمين، وتكون ندوات تثاقف حول حاضر الإسلام ومستقبله.
ويبدو أنّ التراكم التاريخي لـ”مذهب المخطئة” أضعف ـ وربما أمات ـ “الجامعة الإسلامية” وقوّى “الجامعة المذهبية” ونفخ أوارها، وزاد الطين بلة أن اتخذت “الجامعة المذهبية” أساس الولاء والبراء، وبدل أن يحب المسلم دينه أحب مذهبه، وبدل أن يغار المسلم على دينه أصبح يغار على مذهبه، وبدل أن يسعى المسلم إلى تكثير سواد أمته أصبح يسعى إلى تكثير سواد مذهبه، وبدل أن يناوئ المسلم أعداء ملته أصبح يناوئ المخالف لمذهبه، ومن رأى الواقع المرير، بعين الناقد البصير، والحريص الأمين، أصابته الحسرة وغشيه الأنين، إذ تحول المذهب إلى “جامعة” و”مانعة”؛ إلى “جامعة” فيها كل معاني المعاشرة بالمعروف، وإلى “مانعة” تمنع المخالف من كل معاني مكارم الأخلاق، ولو كانت الأمّة حيّة لبحثت عن التّسامح مع المخالفين في الدين، ولكن الأمّة رزئت بالأخرى فها هي ـ وآسفاه ـ تبحث عن التسامح مع الإخوة في الدين.
والحقيقة أنّ “خلق التّسامح” هو المضاد الحيوي الناجع لاجتثاث شجرة التعصب، ولقد جُرّبت سبل عديدة لاستنبات “خلق التّسامح” ولكن كان مصيرها الإخفاق، ومآلها البوار، ولو جُرّب “مذهب المصوبة” لتبين للنّاس أنّه على استنبات “خلق التّسامح” لقادر، وهذه اللبنة الحضارية كافية لترجيح “مذهب المصوبة”، والعمل على تفعيله، وجعله “ثقافة” تسعى بين النّاس، أليس من العجب العجاب أنّ الإسلام ارتقى إلى مستوى التّسامح مع المخالفين من الكفار والمشركين، والمسلمون يرجعون القهقرى ويعجزون عن التسامح فيما بينهم، فكيف يتسامحون مع غيرهم؟ إذ أنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
والحقّ أنّ كلّ الدلائل العلمية والمؤشرات الميدانية تُبين بما لا يدع أيّ مجال للشك أنّ التعصب أهم رافد من روافد التكفير، وأنّ التكفير أهم رافد من روافد التعصب، والأمة لا يمكن أن تؤدي دورها وتحقق رسالتها ما لم تجتث “شجرة التكفير” وتقتلع “شجرة التعصب”، ومشكلة “دعاة التكفير” أنهم لا يملكون من “خلق التّسامح” أدنى قطمير، وأرداهم الغلو في “مذهب المخطئة” في دركات أفسدت الإسلام وأذهبت إشراقه، وكانت نكدا على أمته وأقضت مضجعها. ألم يان لقادة الفكر والعلم أن يجمعوا أمرهم على إقرار “مذهب المصوبة” بكلّ ما تحمله كلمة إقرار من معان ودلالات، فعندها تُغلَّق أبواب التعصب، وتُفتَّح أبواب التسامح، ويُوأَد “العنف الفقهي” البذرة الخبيثة لشجرة التعصب.
أحمد رشيق بكيني – رئيس المركز الثقافي الإسلامي ـ سطيف ـ الجزائر